الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021

جرّه وليس جرها 2

 

ملاحظات على (سلسلة مصادر الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية)

التي أعدتها ونشرتها دارة الملك عبد العزيز بالرياض عام 2017م

عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي:

لا يخفى على أحدٍ الدور المتألق الذي تبذله دارة الملك عبد العزيز في كتابة وتوثيق تاريخ الجزيرة العربية، وتيسير وصول المعلومات التاريخية إلى الباحثين والقرّاء من خلال طبع ونشر عشرات المصادر التاريخية القديمة والدراسات الحديثة في أبهى صورة، وبأسعار رمزية قد لا تغطي حتى سعر التكلفة، وأحياناً تقوم بإهدائها لبعض الباحثين مجاناً، وما هذا إلا دليل على حرص الدارة على حصول هؤلاء الباحثين على المعلومات بكل يسر وسهولة.

وكان من آخر إصدارات الدارة السلسلة المفيدة من كتاب (الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية) التي سخّرت الدارة فيها كل إمكانياتها لتقديم خلاصة ما ورد في المصادر الإغريقية والرومانية القديمة – والباب ما زال مفتوحاً لمصادر أخرى – عن الجزيرة العربية بحيث إنّ الطاقم العلمي الذي اختارته الدارة لأجل هذه المهمة قام بنخل جُلّ المعلومات المتعلقة بالجزيرة العربية من هذه المصادر، وتقديمها بصورة بهية واضحة مرتبة، وباللغتين: اللغة الأم للمصدر، وترجمة ذلك باللغة العربية مع تعليقات علمية في الحواشي وملحقات فنية في آخر كل مصدر من ضمنها فهارس الأعلام العامة.

غير أنّ أي عمل إنساني مهما وصل إلى ذروة من الكمال؛ إلا أنه يبقى عملاً أنسانياً لا يخلو مما لا يخلو البشرُ منه من نسيانٍ، وتحريف، وتصحيف، وأخطاء في الترجمة، فكلنا في النهاية بشرٌ نصيب ونخطئ.

وعند حصولي على هذه السلسلة ضمن نسخة حاسوبية؛ بادرت أول ما بادرت إلى الاطلاع على الكتاب الخاص بالمؤرخ الإغريقي في عصر الإسكندر: أجاثار كيدس الكنيدي (Agatharchides of Cnidus)، والذي هو عبارة عن منخول ما وصل إلينا عن الجزيرة العربية من كتابه الشهير (عن البحر الإريثري)، وذلك لوجود نصٍّ خطير له كنتُ قد دونته في كتابي (جرّه مدينة التجارة العالمية القديمة)؛ الذي قلتُ فيه ما هذا نصُّه عن مدينة جرّه (Gerra) الشهيرة:

"وذكروا أيضاً أنها كانت تضاهي مملكة سبأ في الغِنى والثراء؛ كما ذكروا أنّها ومملكة سبأ كانتا أغنى الأمم القديمة على الإطلاق  وفي هذا الصدد يقول مؤرخ القرن الثاني قبل الميلاد الإغريقي أجاثاركيدس (Agatharchides): 

"No nation seems to be wealthier than the Sabaeans and Gerrhaeans, who are the agents for everything that falls under the name of transport from Asia and Europe. It is they who have made Ptolemaic Syria rich in gold, and who have provided profitable trade and thousands of other things to Phoenician enterprise".

وترجمته:

"لا أمة تبدو أغنى من السبئيين والجرَّهيين الذين هم وكلاء كلّ شيء يقع تحت مسمى النقل من آسيا وأوروبا؛ إنهم الذين جعلوا سوريا البطالمة غنية بالذهب، وهم الذين أمدّوا المؤسسات التجارية الفينيقية بالتجارة المربحة وآلاف الأشياء الأخرى".

هذا ما كتبته في كتابي، وعندما اطلعت على الترجمة العربية لذات النصّ في الفقرة (5: 102)؛ من الصفحة 52 من الكتاب الخاص بكتاب أجاثاركيدس من سلسلة (الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية) تحت عنوان: "الثراء الفاحش للسبئيين!!"؛ فوجئتُ به مترجماً بما هذا نصُّه:

"ليس ثمّة أمّة تتمتع بالرضا أكثر من السبئيّين؛ إذ إنّهم الشعبُ الذي يوزع كلَّ شيء ذي قيمة من آسيا وأووربا، وهم الذين صنعوا ثراء القسم البطلمي من سوريا بمعدن الذهب، وهم أيضاً الذين استحدثوا تجارة رائجة للصناعات الفينيقية وغيرها"

نعم هكذا بحذف لفظة (الجرَّهيين) - أو (الجرهائيين) بحسب ترجمتهم هم لاسم المدينة وسكانها – وهو خطأٌ فادح جداً أنْ يُحذف اسم قومٍ كانوا ثاني أمتين شُهريين مع السبئيين في الجزيرة العربية، وعندما رجعت إلى النصّ المدوّن بلغة الكتاب الأصلية، وهي الإغريقية اليونانية؛ وجدته مكتوباً في الصفحة: 69 من الكتاب هكذا:

"Οὐδὲ γὰρ εὐπορώτερον Σαβαίων καὶ Γερραίων ...".

ومن الواضح وجود اسم الجرّهيين (Γερραίων) في النصّ، وهذا هو الصحيح، فلا أدري كيف غفل المترجم عنها، وهذا مما ينبغي أن يُصَحَّح لأنه من الأخطاء الجسيمة أنْ يُحذف اسمُ أمّة ذات شأن كبير من أمم الجزيرة العربية، وهم الجرَّهيّون؛ من نصّ خطير كهذا النصّ.

وأيضاً، فإنّ مما لاحظته على المترجم هو ترجمته لاسم مدينة: (جرَّه) (Gerra)، أو (Γερρα) بحسب الاسم الإغريقي لها إلى اللغة العربية عن اسم هذه المدينة الروماني (Gerrha) الذي يُنطق: (جرْهَا)، وهو خطأ تَرْجَمِيٌّ قديم وقع فيه المترجمون الأوائل الذين نقلوا الثقافة اليونانية الإغريقية من لغتها الأم إلى اللغة الرومانية بعد أن ورثت الإمبراطورية الرومانية الإمبراطورية اليونانية، وقد ذكرت بالتفصيل هذه المشكلة في الترجمة من اليونانية إلى الرومانية بخصوص اسم مدينة (جره) - التي أوضحتُ رأيي في أنها هي مدينة (هجر) العربية - في كتابي (جره مدينة التجارة العالمية القديمة)، وذكرت هناك المشكلة التي صادفت المترجمين الأوائل لهذا الاسم موثّقاً بالمصادر، ولا بأس بأن أعيده هنا مختصراً للفائدة، ومن أراده موسعاً مع المصادر، فليراجعه في كتابي المذكور.

صحة نطق الاسم: (Γερρα) / (Gerra) الإغريقي أو (Gerrha) الروماني

إنّ المصادر التاريخية التي ورد لنا عبرها اسم مدينة جرَّه (Gerra /γερρα) هي كلها مصادر إغريقية هيلنيستية، والتي تُكتب حين تترجم إلى اللاتينية القديمة (Gerrha) بإضافة الحرف (h)، ولم يرد هذا الاسم في أي مصدر غير إغريقي حتى الآن، وقد دوِّنت سلع تجارية منسوبة إلى هذه المدينة في وثيقتين تعودان للعامين 260 – 261م على التوالي، وهما برديتان من برديّات زينون (Zenon) مدير أملاك أبولونيوس (Apollonios) وزير مالية بطليموس الثاني (285 – 246 ق.م)، وقد ورد لفظ النسبة إليها، وهو (ΓΕΡΡΑΙΟΖ) بالإغريقية الأيونية، ويقابله (Gerraios) في اللاتينية، وعليه فيمكننا أن نعتبر أنّ هذا هو أقدم مصدر ورد فيه النسبة إلى جرّه (Gerra).

.. ووردت بالصيغة (Gerra) عند الجغرافي الإغريقي الشهير جداً بطليموس في كتابه القاموس الجغرافي والخرائط الخاصة به عن الجزيرة العربية قرابة العام 150 للميلاد.

.. وعليه فإنّ اسم (جرَّه) يُكتب وفق أبجدية اللغة اليونانية الحديثة بهذه الصورة (ΓΈΡΡΆ) بالحروف الكبيرة، و(γερρα) بالحروف الصغيرة.

.. فعلى ذلك لا بد وأن نتساءل من أين جاء حرف الهاء (H) في الصيغة الثانية لكتابة اسم مدينتنا أعني (Gerrha)، والجواب بسيط لأنّ أبجدية اللغة اليونانية القديمة لا يوجد فيها حرفٌ خاص يماثل أو يشابه حرف الهاء العربي أو حرف (H) في اللغات اللاتينية، وقد استعاضت اللغة اليونانية الإغريقية عن ذلك باستخدام ما يُعرف بالعلامة الهائية (Rough Breathing) التي توضع على بعض الحروف الصوتية عندما تأتي في أول الكلمة فقط، فتنطق بالهاء وكمثال على ذلك فإنّ حرف الألف اليوناني (α) ينطق مثل الألف الممدودة في اللغة العربية (آ)، ولكن عند إضافة العلامة الهائية فوقه يكتب بهذا الشكل ()، ويُنطق (ها) وليس (آ)، وهذه العلامة – كما قلت – لا توضع إلا فوق بعض الحروف الصوتية المتحركة فقط أو بجنبها، وأما الحروف الساكنة أو شبه الساكنة فلا توضع عليها هذه العلامة الهائية باستثناء حرفٍ واحدٍ فقط هو حرف الراء اليوناني (ρ)، والمسمى في الأبجدية اليونانية (Rho)، والمشتق أصلاً من لفظة (Rêš) في اللغة السامية الأصلية.

ويُصنّف هذا الحرف اليوناني (Rho) - عموماً - بوصفه حرفاً صامتاً جنباً إلى جنب مع الحرف لامْبْدا (Λ)، وأحياناً مع الحرفين مو (Μ) ونو (Ν) الأنفيين، ويتضح التشابه في اللفظ بين الحرف (Rho) وحرف الرّاء (r) في اللغات ذات الأبجديات المشتقة من اللغة اللاتينية، وفي علم الإملاء البوليتونيكي (الإغريقي) يُكتب الحرف (Rho) المخفف في بداية الكلمة عادةً مع ما سميناها بالعلامة الهائية rough breathing (المشابهة لحرف الهاء h) ويُكتب الحرف حينها هكذا: ( ) في حين يُكتب الحرف المشدد منه وسط الكلمة مع العلامة الساكنة smooth breathing على الحرف الأول وينطق راء خفيفة، والعلامة الهائية rough breathing على الحرف الثاني وينطق راءً مع هاء، ويُكتب الحرفان بهذا الشكل (ῤῥ)، وينطقان بهذا الصوت: ارْرُهـْ.

وبالمطلق فإنه ينطق حرف الراء اليوناني () دائماً هكذا (رُهـْ)، أي إننا لو أردنا أن نكتب لفظة (مُرَّه) القبيلة العربية المعاصرة – مثلاً - بالحروف اليونانية القديمة، فإنّ أول مشكل سوف يواجهنا هو أنّ الأبجدية اليونانية لا يوجد بها حرفٌ مكافئ لحرف الهاء، وبالتالي فإنّه سيتم الاستعاضة عن هذا الحرف بحرف الألف أو(ألْفَا) مع كتابة العلامة الهائية فوقه أي هكذا: ()، والذي سبق وقلت إنه يُنطق (ها)، ولكن نظراً لوجود راء مشددة في (مُرَّه)، فسوف تُكتب – حسب ما قدمت من شرح - رائين اثنتين أولاهما عليها علامة السكون التي تجعلها تُلفظ راءاً خفيفة مفردة، والأخرى عليها العلامة الهائية التي تجعلها تُلفظ متلازمة بالهاء، وستكون صورة كتابة لفظة (مُرّه) بالأحرف اليونانية هكذا: (μυῤῥἁ)، ولكن حين تُعطيها لشخص يوناني وتطلب منه قراءتها، فسيقرؤها بهذا الصوت: (مُوْرْرُه)، فلو فرضنا أنّ هذا الاسم قد ورد في كتاب إغريقي قديم بالصورة التي أشرت إليها، وأراد كاتبٌ من الناطقين بإحدى اللغات اللاتينية كالإنجليزية – مثلاً - ولديه خبرة كبيرة باللغة الإغريقية اليونانية ترجمة اللفظة اليونانية (μυῤῥἁ) التي تعني (مُرّه) إلى لغته الإنجليزية، فسيكتبها هكذا: (Murrha) حسب نطقها في اللغة اليونانية، وعلى العموم يظهر دائما وبوضوح التلفظ بالهاء في آخر الكثير من الكلمات اليونانية التي تبدأ بالراء أو تتضمن حرف الراء، ولهذا السبب فإنّ العديد من الكلمات الإنجليزية المشتقّة من اليونانية نراها تبدأ بـ (rh) أو تتضمن (rrh) فيها.

إنّ هذا الأمر الذي تم شرحه بالنسبة لحرف الراء اليوناني ولحوق العلامة الهائية به، وكذلك عدم وجود الحرف المكافئ لحرف الهاء العربي في الأبجدية اليونانية القديمة هو الذي حصل لاسم مدينتنا (جِرَّه) الذي سبق وذكرت أنه يُكتب بالحروف الهجائية اليونانية هكذا (γέῤῥα)، ويلفظه اليونانيون بهذه الصورة (جيرْرَه)، ولهذا فعندما تمت ترجمة الأعمال التاريخية التي ورد فيها اسم هذه المدينة كتاريخ بوليبيوس وجغرافيا سترابو من اللغة الإغريقية اليونانية إلى اللغة اللاتينية، ومنها الإنجليزية، فقد كُتبت بهذه الصورة: (Gerrha) بمحاكاة السماع اللفظي اليوناني؛ تماماً كما فعل اليونان أنفسهم عندما كتبوا اسم هذه المدينة عن أهلها، واللذين كانوا يتلفظون بها بتفخيم أو تشديد حرْف الرّاء، فكتبها المؤرخون الإغريق كما سمعوها منهم مستعيضين عن التشديد الذي لم يكن في لغتهم بكتابة رائين إحداهما ساكنة والأخرى بالعلامة الهائية، وعن حرف الهاء بحرف الألِف (ألْفَا) في آخر الكلمة تماماً كما مرَّ بنا في لفظة (مُرّه).

وإذاً فقد ثبت لنا الآن أنّ اللفظتين اللاتينيتين الإنجليزيتين لمدينتا (جِرَّه)، وهما (Gerra) و(Gerrha) هما - كما سبق وقلت - وجهان كتابيان للفظة واحدة هي الصورة الأولى منهما أعني (Gerra)، والتي تساوي حروفها حروف التسمية الإغريقية (γέῤῥα).

.. وقبل الانتقال إلى موضوع آخر أحب أنْ ألفت الانتباه إلى أنّ صحّة النطق السماعي للاسم (Gerra) بالنسبة للغة العربية هو كما يلي: 

G = ج       e = ي r = ر   r = ر   a = ا

فيكون اسمها العربي بالمحاكاة الصوتية هو (جيرْرَا)، ولأننا نعلم أنّ الحرف (e) أو (έ) اليوناني هو حرفٌ غير مشبّع هنا، فهذا يعني أنه يُنطق في اللغة العربية مثل الكسرة، وبالتالي فإنّ (جيررا) يمكنُ أنْ تُكتب (جِرْرَا)، ولكون اللغة العربية نادراً ما تقبل بالتتالي لحرفين متشابهين في الأسماء المطلقة؛ بل يتم حذف أحدهما، ويستعاض عنه بوضع علامة الشدة على الآخر، فإنّ حرفي الراء في (جِرْرَا) سيدغمان في حرف واحد مشدّد، ويُنطق الاسم عندها (جِرّا)، وأخيراً فإنّ من الواضح أنّ الحرف اليوناني ألْفَا (α) في آخر الكلمة مع العلامة الهائية على الراء () هو تعويض عن حرف الهاء العربي كما سبق وذكرتُ، وعليه فبإمكاننا إعادته إلى أصله أي الهاء، فتصبح (جِرَّا) عندها هي (جِرَّهْ) بكسر الجيم، وتشديد الرّاء مع فتحها، ثم هاءْ ساكنة في آخرها، وليس (جَرْهَا) أو (جَرْهَاءْ) كما اجتهد بعض الباحثين العرب في ترجمتها.

الأحد، 12 سبتمبر 2021

فن التحقيق

 

ألَاْ كُـــلُّ مَـاْشِـيَةِ الـخَـــــيْزَلَىْ

فِدَىْ كُلِّ مَاْشِيَةِ الهَيْدَبَىْ

 

دائماً ما يتبادر إلى ذهني هذا البيت عندما أرى، أو أتصفّحُ، أو أراجعُ (تاريخ الطبري) المطبوع في مطبعة بريل بمدينة ليدن الهولندية، وبتحقيق العالم المستشرق الكبير (دي خويه)، ثم أتصفّحُ أو أراجع بعده الطبعات العربية التالية له؛ بدءاً من طبعة دار المعارف المصرية بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، وهلمَّ نازلاً، فالفرق كبيرٌ جداً جداً، وشتّان بين طبعة ليدن لهذا التاريخ الكبير، وبين طبعات غيرها له، وفرقٌ علميٌّ كبير بين تحقيق دي خويه للطبعة الليدنية، وبين تحقيق كل من جاء بعده، فكلهم أخذوا عنه، ولكنهم ليتهم إذ أخذوا عنه فعلوا (مثل ما فعل) على أقلّ تقدير ولن أطمع منهم بـ(فوق ما فعل)، وآخرهم بشار عوّاد الذي استمعتُ إليه في هذا المقطع الذي أرسله الصديق الأستاذ أحمد آل محمد صالح، ويحقُّ لي أن أتساءل عن مَاذا سيفعل، وما الجديد الذي سيضيفه إلى تحقيق هذا التاريخ الكبير الذي طبع عشرات الطبعات، وكلُّ طبعة يزعم ناشروها أنها محققة؟!.

 

ولعل قائلٍ يقول: انتظر وترى، فلعمري إني لمن المنتظرين، ولكن قبل ذلك إليكم كمثال هاتان الصفحتان من تاريخ الطبري اللتان تتحدثان عن حدثٍ واحد، وهو دخول القرمطي ابن مهرويه الكوفة سنة 293 للهجرة، فانظروا كيف أنّ نصّ الرواية يقول إنه من بلدة (الصَّوْأر)؛ بهذا الرسم الذي كُتبت به في الطبعة الليدنية المحققة بواسطة دي خويه، في حين كتبها محمد أبو الفضل إبراهيم: "الصَّوْءر"، ولكنْ، ولتعرفوا الفرق بين تحقيق دي خويه وتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم؛ انظروا إلى ما كتبه دي خويه في الهامش عن هذه البلدة، وكيف أنّه ذكر ورود اسمها برسم (الصَّوّان) في أكثر من نسخة؛ في حين إنّ محمد أبو الفضل إبراهيم لم يكتب عنها أيّ شيءٍ يُذكر في هامشه التحقيقي!!؛ مع أنّه يدّعي أنه رجع إلى عدة نسخ في تحقيقه لهذا التاريخ!!.

وعندما حققتُ (تاريخ الشريف العابد أخي محسن) صادفني خبر ابن مهرويه هذا الذي رواه الطبري، ولكن بتفصيل أكثر دقة ومعلومة عند الشريف العابد، ومنه قوله عن هذا القرمطي:

 

"ثم رحلوا فنزلوا قرية تعرف بالصَّوَّان؛ على نهر هُدّ  من سواد الكوفة".

 

هكذا ذُكرت في هذا الموضع وفي مواضع أخرى من تاريخ الشريف، فلو أنني اكتفيت بالرجوع إلى تاريخ الطبري بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم لوقعت في حيرة لأنه كتبها (الصوءر)، ولكن بفضل رجوعي إلى طبعة ليدن بتحقيق دي خويه، فهو حتى وإن كتبها (الصَّوأر)؛ إلا أنه ذكر بكلّ أمانة ورودها باسم (الصَّوّان) في أكثر من نسخة، وهو الاسم الصحيح لهذه البلدة الكوفية، والذي أكده الشريف العابد لها في تاريخه، فتحقيق دي خويه هو لعمري التحقيق الصحيح؛ الذي إنْ لم يوصلك إلى الحقيقة، فإنه يضعك على الطريق الصحيح إليها.

الخميس، 9 سبتمبر 2021

وثيقة حول نزاع على توزيع المياه انتهى بالصلح

 

وثيقة أحـسائية تدلّ على وقوع نزاع حول نصيب نهر النعيلي 

المتفرع من نهر سليسل؛ انتهى بالتصالح بين الطرفين المتنازعين


كتب: عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي 


من المعروف أنّ نهر أبي الثيران الذي هو أحد فروع نهر سُليسل، والأنهار السبعة الأخرى التي تشاركه مياه هذا النهر العظيم هي: (سيّاح – نهر محمد – الزهيري – الجرواني – ابن راضي – الحِدّ - النعيلي)، وكان نهر أبي الثيران يسقي بساتين الطريبيل والدالوة والتيمية والمزاوي؛ غير أنّ نصيب نهر أبي الثيران وستّة أنهر من الأنهار السبعة المذكورة أعلاه تعرّض في العقد التاسع من القرن الثاني عشر الهجري إلى نقصٍ في الدَّفق المائي الذي كان يأتيه من النهر الأم سليسل، وهذه الوثيقة تعالج هذه القضية.

 

تاريخ الوثيقة: 1182هـ.

المدَّعِيْ: عبّاد آل حسن من أهل القارة أصالة عن نفسه، ووكالة عن أهل القارة والتويثير والعمران والتيمية والمزاوي وأهل الدالوة وأهل الطريبيل.

المُدَّعَى عليه: إبراهيم بن محمد الجبيلي من أهل الجبيل.

القاضي المتنازع عنده: عبد الرحمن بن محمد بن الشيخ حسين العدساني

شهود الوثيقة: (علي بن حسين بن الشيخ إبراهيم العدساني – سليمان بن عبد الله بن جغيمان – مبارك بن أحمد الخطيب – حسن بن سيد حسين بن سيد سالم).

مادة النزاع: حصة نهر النعيلي المتفرع من سليسل، والذي كان يسقي قسماً من بساتين الجبيل والحليلة.

دعوى عبّاد آل حسن القارِيّ وموكّليه تتلخص في: أنّ إبراهيم بن محمد الجبيلي صار يأخذ لنهر النعيلي الثلث من نهر سليسل، والنعيلي ليس له من ماء سليسل غير الخمس، وأنّه لعبّاد ولموكليه أربعة أخماس ماء النهر.

دعوى إبراهيم بن محمد الجبيلي تتلخص في: أنّ لنهر النعيلي من ماء نهر سليسل ثلث الماء ولعبّاد وموكليه الثلثان فقط.

 

إجراءات القضية:

أولاً: طلب القاضي من عبّاد آل حسن البيّنة على دعواه باعتباره المدَّعيْ، فأحضر حجة مكتوبة في وقت سابق تؤكد كلامه بأنه ليس لإبراهيم الجبيلي في الماء المذكور غير الخمس، وعلى هذه الحجة إمضاء أبي بكر بن عمر الملا، وشهادة محمد بن ناهض الجبيلي، وعلي بن ناصر أبو قناص.

ثانياً: لم ينكر إبراهيم بن محمد الجبيلي هذه الحجة، ولكنه قال إنها كتبت قبل حفر نهر الجبري، وأما بعد حفر هذا النهر، فقد صار للنعيلي الثلث من ماء نهر سليسل.

ثالثاً: طلب القاضي من إبراهيم الجبيلي إحضار بيّنة على كلامه الأخير هذا، فلم يكن عنده غير قوله فقط بحسب القاضي.

 

النتيجة: بعد تفاهم ودّي جرى بين المتنازعين اتفقوا على القبول بأن يكون الحلّ وسطاً، وهو أنْ يكون لنهر النعيلي الربع من ماء نهر سليسل، ولعباد وموكّليه ثلاثة أرباعه، وتمّ الصُّلح على ذلك، وشهد عليه الشهود المذكورون أعلاه.


صورة الوثيقة موضع الدرس:






الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

ملاحظات علمية على الخبر المنشور بعنوان: (دراسة تكشف بأن الأحساء موطن تمور البرني)

 

ملاحظات علمية على الخبر المنشور بعنوان:

(دراسة تكشف بأن الأحساء موطن تمور البرني)

 

تحت هذا العنوان نُشر هذا الخبر في جريدة الرياض  في عددها الإلكتروني ليوم الأربعاء 1 صفر 1443هـ الموافق 8 سبتمبر 2021م، عبر الرابط: https://www.alriyadh.com/1905547.

وقد قمت بالرد عليه من خلال خاصية الردّ للقراء في ذات اليوم، ولكنهم لم ينشروا ردّي حتى الآن، وفي هذا الخبر أخطاءٌ واضحة لا تتفق مع منهج البحث العلمي، فقد زعم كاتب الخبر أنّ هذه الدراسة قد كشفت عن الموطن الأصلي لصنف تمور "البرني"!! الذي أشاد به رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وآله سلم قبل أكثر من 1400 سنة، هو "هجر" التي هي نفسها واحة الأحساء، والواقع هو أنّ كون هجر هي الموطن الأصلي لتمر البرني لا يحتاج إلى مثل هذه الدراسة، فهو مذكور في كتب السيرة والتاريخ والأدب، وفي مادة [برن] من معاجم اللغة العربية.

كما قال كاتب الخبر إنّ الدراسة قامت بإجراء فحوصات وتحاليل مقارنة الحمض النووي (DNA) لتمور متحجرة تعود للعام 160هـ لم يذكر أين وجدوها - وهذا خطأ علمي – كما ذكر أنّ الدراسة أجريت حسب قوله في مختبرات ومعامل متخصصة ومراكز بحثية محلية وعالمية في سويسرا، ولم يذكروا اسمها - وهذا خطأ آخر – وذكر أيضاً أنّ القائمين على الدراسة قد وجدوا أنّ نتائج الفحوصات أثبتت أنّ هذه التمرات المتحجرة تطابق صفاتها تمر "الرزيز" الموجود في الأحساء بنسبة 92%، وأن التغييرات الجينية التي طرأت على الصنف محدودة جدًا، وهو ما جعل القائمين عليها يجزمون جزماً قاطعاً أنّ الرزيز هو البرني وفق ذلك!!، وهذا ثالث خطأ، علمي، وهو من أكبر الأخطاء؛ لأنّ فحوصات التحليل الجيني للبصمة الوراثية (DNA) هي فحوصات تُعمل لمعرفة بصمة الجينات الوراثية المخزنة والمشفرة في الكائنات الحيّة، والمنتقلة عبر تسلسل الحمض النووي لها من المُوَرِّث إلى الوَاْرِث عبر أطوار التاريخ، ولكنّ هذا الفحص لا يُعمل لمعرفة الأسماء التاريخية للكائنات الحيّة، ولهذا فإنّ القائمين على هذا الفحص – إن كانوا قد قاموا به بمنهجية علمية – فإنهم لن يحصلوا منه على الاسم التاريخي لهذه التمرات المُجرى عليها هذا الفحص، ولن يقول لهم هذا الفحصُ إنّ هذه التمرات هي من نوع البرني، وإنما سيكون كلُّ الذي يحصلون عليه من هذا الفحص هو إخباره لهم بأنّ هذه التمرات تتشابه جينياً ووراثياً مع جينات تمر الرزيز فقط لا غير من دون إعطاء أسماء، وعند هذا الحدّ، فإنه لا غرابة في هذا الأمر مطلقاً، فتمر الرزيز كان هو الآخر موجوداً في هجر أيام الرسول، وأرجحُ أنه هو تمر التعضوض الذي كان أحد أكثر تمور هجر شهرة مع البرني، فمن صفات التعضوض كما في مادة [عض] من معاجم اللغة ككتاب العين، وتهذيب اللغة للأزهري أسير القرامطة في البحرين، والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيّده وغيرها؛ أنه:

    · أسودٌ شديد الحلاوة.

    · ذو تمرة طحلاء صقرة لذيذة.

    · فيها تحزيز كأنّه آثار العَضّ.

    · معدنه هجر وقراها.

وهذه الصفات واضحة جداً في تمر الرزيز أكثر من غيره من تمور الأحساء، ولاسيما اللون الأسود، وما يشبه آثار العض؛ كما أنه ينبغي لناشري هذه الدراسة أن يعرفوا بأنّ المنهج العلمي لا يبيح لهم أن يتبرعوا بإطلاق اسم البرنيّ على تلك التمرات المتحجرة، وإنما كان من المفترض عليهم أن يذكروا تشابه نتائج التحاليل المختبرية التي أجريت عليها بفحص (DNA) مع صفات تمر الرزيز المعروف في الأحساء الآن فقط، ولو أنهم رجعوا إلى المعاجم اللغوية والمصادر الأدبية التي ذكرت صفات البرني لوجدوا أنّ اللغويين  اتفقوا على أنّ من صفات البرني أنّ رُطَبَه أصْفرٌ مُشَرَّبٌ بحُمْرَة، وتمْرُهُ أحْمَرٌ مُشَرَّبٌ بصُفْرَةٍ.



 تمر الرزيز الأحسائي، ويلاحظ أنه أسود اللون أطحله، وفيه تحزيز يشبه آثار العض 
تماماً كما ورد في وصف التعضوض في المعاجم اللغوية.

الأربعاء، 1 سبتمبر 2021

دلمون وتيرم وبحرين

 

دلمون .. تيرم .. بحرين

تعددت الأسماء والمعنى واحد؟

كتب / عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي

كثيرٌ منا يعرف أنّ اسم البحرين كان يُطلق على كامل الجزء الشرقي من شبه الجزيرة العربية، أو كما قال البكري في تحديد البحرين من كتابه المسالك والممالك:

"هيَ بلادٌ واسعةٌ شَرْقِيُّهَا سَاحلُ البَحْرِ، وغَرْبيُّهَا مُتَّصِلٌ باليَمَامَةِ، وَشَمَالُها مُتَّصِلٌ بالبَصْرَةْ، وَجَنُوْبُهَا مُتَّصِلٌ ببلادِ عُمَاْنْ".[1]

وهذا يعني أنّ اسم البحرين كان يشمل ما يُعرف الآن بـ(المنطقة الشرقية) من المملكة العربية السعودية، وجزر دولة البحرين، وشبه الجزيرة القطرية، ودولة الكويت.

وكثيرٌ منا يعرف أيضاً أنّ (بحرين) هو لفظ تثنية لكلمة (بحر)، وأنّ من أشهر التعليلات لتسمية هذه المنطقة بهذا الاسم هو وجود نوعين من المسطحات المائية فيها، وهو البحر المالح المتمثل في (الخليج)، وبحيرات وأنهار كثيرة تشبه البحر كانت تتشكل من تدفق هائل للمياه العذبة في واحتي القطيف والأحساء وجزيرة أوال، وما يتبع لها من واحات وبراري.[2]

غير أنّ الذي يجب أن نعرفه هو أنّ مُسمّى (البحرين) هو لفظٌ عربيٌّ أطلقه عرب شبه الجزيرة العربية القادمين من داخلها إلى شرقيّها في بداية القرن الثالث الميلادي، وهم الذين عُرفوا في التاريخ باسم مُجَمَّع (تنوخ)، أو (تنخ) كما في عشرات الشواهد الحجرية المكتشفة في المنطقة.

وإنّ معرفتنا لزمن إطلاق مُسمّى البحرين بلفظه العربي هذا في القرن الثالث الميلادي يطرح أمامنا سؤالاً عريضاً حول ماذا كان اسم هذه المنطقة قبل أن ينزل عرب داخل شبه الجزيرة العربية فيها؟ إذ لا بد من أنه كان لها اسمٌ آخر، وهذا بالفعل هو الحاصل، وقد أشرتُ في كتابي (جرّه؛ مدينة التجارة العالمية القديمة)[3] إلى النصّ الذي ذكره نصر الإسكندري، والذي نصَّ فيه على أنّ الاسم القديم لمدينة أوال - التي استقلّت الآن باسم البحرين - هو (ترم)،[4] من دون أن نعرف مصدره في ذلك، ولكن يبدو واضحا التشابه بين هذا الاسم؛ (تَرْم)، أو (Tarm)، الذي ذكره نصر الإسكندري لمدينة أوال وبين (تَير)، أو (Tyre) الذي ذكره سترابو في كتابه الجغرافيا كاسم لجزيرة أوال أيضاً،[5]، ومنه يتضح لنا أنّ نصراً أطلق اسم (ترم) على أوال نقلاً عن اسم سترابو (Tyre)؛ كما أرى أنّ ما كتبه نصرٌ تم حذف حرف الياء منه، وأنّ اسمها الصحيح هو (تَيْرْم)، وليس (تَرْم) مع صحة التسمية بالاسمين لأنّ (تير)، أو (Tyre) هي لفظة ذات أصل سامي قديم اشتقّ منها لفظة (تيّار) في العربية، وهو تيارُ البَحْرِ؛ أي موجُه؛ قال عديُّ بن زيد:

كالبحر يَقْذِف بِالتَّيارِ تَيَّاراً.

وأيضاً فإنَّ اللفظة (تير) كانت معروفة لدى سكان الخليج في القرن التاسع الهجري، وقد  استخدمت في المسميات اللغوية البحرية في المنطقة، وكان بحارة الخليج القدماء يستخدمونها في مصطلحاتهم البحرية كاسم لنجم بحري، ومنهم الربّان الخليجي الأشهر أحمد بن ماجد الذي كثر استخدامه له في شعره، ومنه قوله يصف المسافات البحرية بالقرب من البحرين والقطيف:

وَمِنهُ للبحرينِ سِتَّةْ أزوَامْ    

في مَغربِ العَقرَبِ بالتَّمَامْ

وَمَغرِبُ (التّيرِ) عَلَى تاروتَا                             

ترى القطيفَ عامراً منعوتَا

و(تير) كذلك هو جذر في اللغة الأوردوية الهندية، ومنه اشتق الاسم (تار) التي تعني:البحر أيضاً،[6] وهذا كله يعني ارتباط هذا الجذر بمعاني البحر، وعلى ضوء ذلك، فإنه يمكن القول إن (تَيْرْم) هي كلمة مركبة من لفظين؛ هما: (تير) التي تعني البحر، و(م)، وهو علامة الجمع والتثنية في بعض اللغات الساميّة كالفينيقية والأوغاريتية، ويكون ذلك بإضافته إلى آخر الاسم كقولهم (بيتم) تثنية (بيت)،[7] وهذا يقودنا إلى أنّ معنى (تيرم) هو (بحرين)، وهو يعني أيضاَ أنّ التنوخيين عندما تنخوا في البحرين قاموا بتعريب الاسم (تيرم) إلى لغتهم، فسمّوها (بحرين).

وإذا سلّمنا بأنّ (اسم البحرين) الأقدم منه هو (تيرم) الذي يحمل ذات المعنى أي مثنى بحر، فماذا عن الاسم (دلمون) الذي هو أقدم اسمٍ معروف لهذه المنطقة ذاتها؟؛ هل كان يعني ذات المعنى؟ أي هل أنّ (دلمون) عند من أطلق هذا الاسم على هذه المنطقة كان يحمل ذات المعنى الذي يحمله اسم (البحرين)، و(تيرم) اللذين يعنيان مُثنّى بحر؟.

بطبيعة الحال، فإنّ الجواب على ذلك ليس سهلاً، فنحنُ لا نعرف عن الدلمونيين الشيء الكثير، وكل معارفنا عنهم أخذناها مما خلفوه في منطقتنا من آثار، وكذلك من النصوص الأكدية والسومرية والآشورية التي تم الكشف عنها لحضارات بلاد ما بين النهرين، والتي كانت شحيحة في الكم والكيف عموماً، وأما آثار الدلمونيين، فعلى الرغم من كثرتها إلا أنه لم يكن من بينها نصوص مكتوبة ذكرت من أحوالهم شيئاً باستثناء نصٍّ وحيدٍ هو حجر ديورانت الذي لا يتجاوز ما ذكر فيه السطر الواحد، وأما الآثار الشبيهة بالكتابة التي خلفها لنا الدلمونيون فهي الأختام فقط، وهي أيضاً كانت تتصف بالمحدودية في المعرفة العامة فضلاً عن معرفة معنى اسم دلمون لدى الدلمونيين.

غير أنه يمكننا الاستدلال في هذا الأمر بعلم اللغة باعتباره العلم المتوارث عند البشر لكون لغاتهم تعود في الأصل إلى مجموعات لغوية قديمة ومعروفة؛ مثل اللغات السامية واللغات الهندو أوروبية، وهاتان العائلتان اللغويتان هما العائلتان اللتان اشتهر سكان الشرق الأوسط برجوع لغات سكانه إليهما، وبخصوص الدلمونيين، فإنّ بعض الباحثين يرى أنهم مهاجرون من حضارة وادي الأندوس الهندية، ومن هذا المنطلق فإنني سأفترض أسوةً باسمي: (بحرين)، و(تيرم) اللذين هما مركّبان من لفظين اثنين أنّ الاسم (دلمون) قد يكون هو الآخر مركباً من لفظين اثنين، وهما: (دو) التي تعني (اثنين) في اللغات الهندو إيرانية، و(ليمون)، أو (leimṓn) اللاتينية، أو (λίμνη) بالإغريقية القديمة المنتميتين إلى اللغة الهندو أوروبية، وكلا اللفظتين الأخيرتين تُنطقان (لِيْمُوْنْ)، ولها عدة معانٍ؛ كلها تتعلق بالمياه والمسطحات المائية؛ مثل: بحيرة مستنقعية، أو تجمع مياه راكدة خلَّفَها بحرٌ أو نهرٌ، أو حوضٌ أو خزانٌ للمياه،[8] وجاء في قاموس وبستر (SINCE 1828) تحت الجذر (Limnetic):

"Probably from Greek limnḗtēs "living around lakes" (from límnē "standing water, pool, marshy lake" + -ētēs, extended form of -tēs, agent suffix), Greek límnē perhaps going back to an Indo-European paradigm ... whence, with semantic and morphological differentiation, Greek leimṓn "damp tract of ground, moist meadow," limen-, limḗn "protected creek, harbor".[9]

وترجمته التقريبية:

"ربما تكون ليمنيتيك (limnetic) من اليونانية ليمنيتس (limnḗtēs)؛ أي "العيش حول البحيرات"، والتي تتكون من (límnē) التي تعني "المياه الراكدة، أو حوض، أو بحيرة مستنقعية"، و (tēs)؛ أداة لاحقة)، وربما تعود límn اليونانية إلى النموذج الهندو-أوروبي (lei-mōn)،.. حيث مع التمايز الدلالي والمورفولوجي، فإنّ (leimṓn) اليونانية تعني: المسالك الرطبة من الأرض، والمرج الرطب؛ في حين تعني لفظتا (limen)، و(limḗn): خليجاً صغيراً، أو مرفأ".

وتعني لفظة (Creek) في نص قاموس وبستر: جدول و جونٌ أيضاً، وكما نلاحظ، فإنّ معنى لفظة (ليمون)، أو (Leimṓn) في هذه اللغات الهندو-أوروبية القديمة يدور معناه حول المسطحات المائية كما سبق وقلت، وكما رأينا فإنه ورد من معانيها بحيرة وبحر وخليج، وهو ما يجعلني أتمسّك بطرحي، ورأيي بأنّ الاسم دلمون (Dilmun)، أو (Delmun) الذي كان يُطلق في الألفيات الثلاث قبل الميلاد على شرق شبه الجزيرة العربية كان يعني في لغة واضعيه ذات المعنى الذي تعنيه لفظة (بحرين) العربية، و(تيرم) الأوغاراتية، وكلاهما مُثنّى بَحْر، وكذلك الأمر بخصوص دلمون الذي أرى أنه يتكون من (دو)، أو (Do)، وتعني اثنين، و(ليمون)، أو (Leimon)، وتعني خليج أو بحيرة أو بحر أو نهر، وعند جمعهما بالنحت يكتبان: (Delmun)؛ أي أنّ الاسم قد يعني: (نهرين – بحيرتين – خليجين – بحرين)، والجدير بالذكر أنه إذا كنتُ قد ذكرت أنّ من ضمن تعليلات المؤرخين لسبب تسمية البحرين بهذا الاسم هو وجود بحرين من المياه فيها؛ أحدهما بحرٌ من المياه المالحة، والثاني بحرٌ آخر من المياه العذبة، فإنني أضيف هنا أنّ للأزهري أسير القرامطة في البحرين عامي 312، و313 للهجرة رأيٌ مقارب يقول إنّ البحرين سُمّيت بهذا الاسم للبحر الأخضر يعني الخليج، ولبحيرة هجر التي تقع شرقي قراها؛[10] كما يوجد للأصمعي والهمداني رأيٌ مقارب لهذا الرأي، حيث ذكرا أن سبب تسمية البحرين بهذا الاسم هو وجود عينين هائلتين فيها: اسمُ إحداهما (مُحَلّم)، وقد اتفقا عليه، وأما الأخرى، فاختلفا على تسميتها، حيث سَمّاها الأصمعي: (قَضَبَى)،[11] وسمّاها الهمداني: (جُرَيْب)،[12] وزاد الأصمعي إفادة حول هاتين العينين، فقال: إنّ محلم تقوم عليها هَجَر، وقَضَبَى تقوم عليها القطيف التي تُسمّى الخطّ،[13] وهجر والخط هما قصبتا البحرين.

 



[1] عبد الله بن عبد العزيز البكري: المسالك والممالك؛ تحقيق: الدكتور جمال طلبة (بيروت: دار الكتب العلمية 2003م)؛ ج1: 385.

[2] حمد الجاسر: المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية / المنطقة الشرقية (البحرين قديماً)؛ رسم [ بحرين ].

[3] عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي: جرّه مدينة التجارة العالمية القديمة (بيروت: دار المحجة البيضاء؛ 2009م)؛ الصفحة: 55.

[4] نصر بن عبد الرحمن الإسكندري: الأمكنة والمياه والجبال والآثار؛ تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دارة الملك عبد العزيز 2004م) ج1: 164 - 165.  

[5] انظر:

Strabo: geography, (Cambridge - London 1924) Book 16, p299 Chapter 3.

[6] أبو الفضل مولانا عبد الحفيظ بلياوى: مصباح اللغات قاموس عربي أوردو (لاهور: أبو بكر قدوسي 1999م)؛ الصفحة: 90؛ الجذر (تار).

[7]  جمال الدين الخضّور: عودة التاريخ؛ الانتربولوجية المعرفية العربية / دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية-  اللغوية ووحدتها (دمشق 1997م) ج1: 49.

[8] انظر:

HENRY GEORGE LIDDELL, M. A & ROBERT SCOTT, M. A.: GREEK-ENGLISH LEXICON (NEW YORK: HARPER & BROTHERS, PUBLISHERS, PP 848.

[9] انظر الرابط:

https://www.merriam-webster.com/dictionary/limnetic

[10] محمد بن أحمد بن طلحة الهروي الأزهري: تهذيب اللغة؛ تحقيق جماعة من المحققين (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة 1964)؛ ج5: 27.

[11] نصر بن عبد الرحمن الإسكندري: الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوها المذكورة في الأخبار والأشعار؛ تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دارة الملك عبد العزيز 2004م) ج2: 540؛ باب [نجران وبحران ونجدان وبحرين].

[12] الحسن بن أحمد الهمداني: صفة جزيرة العرب؛ تحقيق محمد بن علي الأكوع (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر 1394هـ 1974م)؛ الصفحة 281.

[13] نصر بن عبد الرحمن الإسكندري: الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوها المذكورة في الأخبار والأشعار؛ تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دارة الملك عبد العزيز 2004م) ج2: 540؛ باب [نجران وبحران ونجدان وبحرين].