ملاحظات
على (سلسلة مصادر الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية)
التي أعدتها ونشرتها دارة الملك عبد العزيز
بالرياض عام 2017م
عبد
الخالق بن عبد الجليل الجنبي:
لا
يخفى على أحدٍ الدور المتألق الذي تبذله دارة الملك عبد العزيز في كتابة وتوثيق تاريخ
الجزيرة العربية، وتيسير وصول المعلومات التاريخية إلى الباحثين والقرّاء من خلال
طبع ونشر عشرات المصادر التاريخية القديمة والدراسات الحديثة في أبهى صورة، وبأسعار
رمزية قد لا تغطي حتى سعر التكلفة، وأحياناً تقوم بإهدائها لبعض الباحثين مجاناً،
وما هذا إلا دليل على حرص الدارة على حصول هؤلاء الباحثين على المعلومات بكل يسر
وسهولة.
وكان
من آخر إصدارات الدارة السلسلة المفيدة من كتاب (الجزيرة العربية في المصادر
الكلاسيكية) التي سخّرت الدارة فيها كل إمكانياتها لتقديم خلاصة ما ورد في المصادر
الإغريقية والرومانية القديمة – والباب ما زال مفتوحاً لمصادر أخرى – عن الجزيرة
العربية بحيث إنّ الطاقم العلمي الذي اختارته الدارة لأجل هذه المهمة قام بنخل
جُلّ المعلومات المتعلقة بالجزيرة العربية من هذه المصادر، وتقديمها بصورة بهية
واضحة مرتبة، وباللغتين: اللغة الأم للمصدر، وترجمة ذلك باللغة العربية مع تعليقات
علمية في الحواشي وملحقات فنية في آخر كل مصدر من ضمنها فهارس الأعلام العامة.
غير
أنّ أي عمل إنساني مهما وصل إلى ذروة من الكمال؛ إلا أنه يبقى عملاً أنسانياً لا
يخلو مما لا يخلو البشرُ منه من نسيانٍ، وتحريف، وتصحيف، وأخطاء في الترجمة، فكلنا
في النهاية بشرٌ نصيب ونخطئ.
وعند
حصولي على هذه السلسلة ضمن نسخة حاسوبية؛ بادرت أول ما بادرت إلى الاطلاع على الكتاب
الخاص بالمؤرخ الإغريقي في عصر الإسكندر: أجاثار كيدس الكنيدي (Agatharchides of Cnidus)، والذي هو عبارة عن منخول ما وصل إلينا عن الجزيرة العربية من
كتابه الشهير (عن البحر الإريثري)، وذلك لوجود نصٍّ خطير له كنتُ قد دونته في كتابي
(جرّه مدينة التجارة العالمية القديمة)؛ الذي قلتُ فيه ما هذا نصُّه عن مدينة جرّه
(Gerra) الشهيرة:
"وذكروا
أيضاً أنها كانت تضاهي مملكة سبأ في الغِنى والثراء؛ كما ذكروا أنّها ومملكة سبأ
كانتا أغنى الأمم القديمة على الإطلاق وفي
هذا الصدد يقول مؤرخ القرن الثاني قبل الميلاد الإغريقي أجاثاركيدس (Agatharchides):
"No nation seems to be wealthier than the Sabaeans and
Gerrhaeans, who are the agents for everything that falls under the name of
transport from Asia and Europe. It is they who have made Ptolemaic Syria rich
in gold, and who have provided profitable trade and thousands of other things
to Phoenician enterprise".
وترجمته:
"لا
أمة تبدو أغنى من السبئيين والجرَّهيين الذين هم وكلاء كلّ شيء يقع تحت مسمى النقل
من آسيا وأوروبا؛ إنهم الذين جعلوا سوريا البطالمة غنية بالذهب، وهم الذين أمدّوا
المؤسسات التجارية الفينيقية بالتجارة المربحة وآلاف الأشياء الأخرى".
هذا
ما كتبته في كتابي، وعندما اطلعت على الترجمة العربية لذات النصّ في الفقرة (5:
102)؛ من الصفحة 52 من الكتاب الخاص بكتاب أجاثاركيدس من سلسلة (الجزيرة العربية في
المصادر الكلاسيكية) تحت عنوان: "الثراء الفاحش للسبئيين!!"؛ فوجئتُ به
مترجماً بما هذا نصُّه:
"ليس
ثمّة أمّة تتمتع بالرضا أكثر من السبئيّين؛ إذ إنّهم الشعبُ الذي يوزع كلَّ شيء ذي
قيمة من آسيا وأووربا، وهم الذين صنعوا ثراء القسم البطلمي من سوريا بمعدن الذهب،
وهم أيضاً الذين استحدثوا تجارة رائجة للصناعات الفينيقية وغيرها"
نعم
هكذا بحذف لفظة (الجرَّهيين) - أو (الجرهائيين) بحسب ترجمتهم هم لاسم المدينة وسكانها
– وهو خطأٌ فادح جداً أنْ يُحذف اسم قومٍ كانوا ثاني أمتين شُهريين مع السبئيين في
الجزيرة العربية، وعندما رجعت إلى النصّ المدوّن بلغة الكتاب الأصلية، وهي
الإغريقية اليونانية؛ وجدته مكتوباً في الصفحة: 69 من الكتاب هكذا:
"Οὐδὲ γὰρ εὐπορώτερον Σαβαίων καὶ Γερραίων ...".
ومن
الواضح وجود اسم الجرّهيين (Γερραίων) في النصّ، وهذا هو الصحيح، فلا أدري كيف غفل
المترجم عنها، وهذا مما ينبغي أن يُصَحَّح لأنه من الأخطاء الجسيمة أنْ يُحذف اسمُ
أمّة ذات شأن كبير من أمم الجزيرة العربية، وهم الجرَّهيّون؛ من نصّ خطير كهذا
النصّ.
وأيضاً،
فإنّ مما لاحظته على المترجم هو ترجمته لاسم مدينة: (جرَّه) (Gerra)، أو
(Γερρα) بحسب الاسم الإغريقي لها إلى اللغة العربية عن اسم هذه المدينة
الروماني (Gerrha) الذي يُنطق: (جرْهَا)، وهو خطأ تَرْجَمِيٌّ قديم وقع فيه المترجمون
الأوائل الذين نقلوا الثقافة اليونانية الإغريقية من لغتها الأم إلى اللغة
الرومانية بعد أن ورثت الإمبراطورية الرومانية الإمبراطورية اليونانية، وقد ذكرت
بالتفصيل هذه المشكلة في الترجمة من اليونانية إلى الرومانية بخصوص اسم مدينة
(جره) - التي أوضحتُ رأيي في أنها هي مدينة (هجر) العربية - في كتابي (جره مدينة
التجارة العالمية القديمة)، وذكرت هناك المشكلة التي صادفت المترجمين الأوائل لهذا
الاسم موثّقاً بالمصادر، ولا بأس بأن أعيده هنا مختصراً للفائدة، ومن أراده موسعاً
مع المصادر، فليراجعه في كتابي المذكور.
صحة
نطق الاسم: (Γερρα) / (Gerra)
الإغريقي أو (Gerrha) الروماني
إنّ
المصادر التاريخية التي ورد لنا عبرها اسم مدينة جرَّه (Gerra /γερρα) هي
كلها مصادر إغريقية هيلنيستية، والتي تُكتب حين تترجم إلى اللاتينية القديمة (Gerrha) بإضافة الحرف (h)، ولم يرد هذا الاسم في أي مصدر غير إغريقي
حتى الآن، وقد دوِّنت سلع تجارية منسوبة إلى هذه المدينة في وثيقتين تعودان
للعامين 260 – 261م على التوالي، وهما برديتان من برديّات زينون (Zenon)
مدير أملاك أبولونيوس (Apollonios) وزير مالية بطليموس الثاني (285 – 246
ق.م)، وقد ورد لفظ النسبة إليها، وهو (ΓΕΡΡΑΙΟΖ) بالإغريقية الأيونية، ويقابله (Gerraios) في اللاتينية، وعليه فيمكننا أن نعتبر أنّ هذا هو أقدم مصدر ورد
فيه النسبة إلى جرّه (Gerra).
..
ووردت بالصيغة (Gerra) عند الجغرافي الإغريقي الشهير جداً بطليموس
في كتابه القاموس الجغرافي والخرائط الخاصة به عن الجزيرة العربية قرابة العام 150
للميلاد.
..
وعليه فإنّ اسم (جرَّه) يُكتب وفق أبجدية اللغة اليونانية الحديثة بهذه الصورة (ΓΈΡΡΆ)
بالحروف الكبيرة، و(γερρα) بالحروف الصغيرة.
..
فعلى ذلك لا بد وأن نتساءل من أين جاء حرف الهاء (H) في
الصيغة الثانية لكتابة اسم مدينتنا أعني (Gerrha)، والجواب بسيط لأنّ أبجدية اللغة اليونانية
القديمة لا يوجد فيها حرفٌ خاص يماثل أو يشابه حرف الهاء العربي أو حرف (H) في
اللغات اللاتينية، وقد استعاضت اللغة اليونانية الإغريقية عن ذلك باستخدام ما
يُعرف بالعلامة الهائية (Rough
Breathing) التي توضع على
بعض الحروف الصوتية عندما تأتي في أول الكلمة فقط، فتنطق بالهاء وكمثال على ذلك
فإنّ حرف الألف اليوناني (α) ينطق مثل الألف الممدودة في اللغة العربية
(آ)، ولكن عند إضافة العلامة الهائية فوقه يكتب بهذا الشكل (ἁ)،
ويُنطق (ها) وليس (آ)، وهذه العلامة – كما قلت – لا توضع إلا فوق بعض الحروف
الصوتية المتحركة فقط أو بجنبها، وأما الحروف الساكنة أو شبه الساكنة فلا توضع
عليها هذه العلامة الهائية باستثناء حرفٍ واحدٍ فقط هو حرف الراء اليوناني (ρ)،
والمسمى في الأبجدية اليونانية (Rho)، والمشتق أصلاً من لفظة (Rêš) في
اللغة السامية الأصلية.
ويُصنّف
هذا الحرف اليوناني (Rho) - عموماً - بوصفه حرفاً صامتاً جنباً إلى
جنب مع الحرف لامْبْدا (Λ)، وأحياناً مع الحرفين مو (Μ) ونو
(Ν) الأنفيين، ويتضح التشابه في اللفظ بين الحرف (Rho)
وحرف الرّاء (r) في اللغات ذات الأبجديات المشتقة من اللغة اللاتينية، وفي علم
الإملاء البوليتونيكي (الإغريقي) يُكتب الحرف (Rho)
المخفف في بداية الكلمة عادةً مع ما سميناها بالعلامة الهائية rough breathing (المشابهة لحرف الهاء h) ويُكتب الحرف حينها هكذا: ( ῥ ) في
حين يُكتب الحرف المشدد منه وسط الكلمة مع العلامة الساكنة smooth breathing على
الحرف الأول وينطق راء خفيفة، والعلامة الهائية rough breathing على
الحرف الثاني وينطق راءً مع هاء، ويُكتب الحرفان بهذا الشكل (ῤῥ)،
وينطقان بهذا الصوت: ارْرُهـْ.
وبالمطلق
فإنه ينطق حرف الراء اليوناني (ῥ) دائماً هكذا (رُهـْ)، أي إننا لو أردنا أن
نكتب لفظة (مُرَّه) القبيلة العربية المعاصرة – مثلاً - بالحروف اليونانية
القديمة، فإنّ أول مشكل سوف يواجهنا هو أنّ الأبجدية اليونانية لا يوجد بها حرفٌ
مكافئ لحرف الهاء، وبالتالي فإنّه سيتم الاستعاضة عن هذا الحرف بحرف الألف
أو(ألْفَا) مع كتابة العلامة الهائية فوقه أي هكذا: (ἁ)،
والذي سبق وقلت إنه يُنطق (ها)، ولكن نظراً لوجود راء مشددة في (مُرَّه)، فسوف
تُكتب – حسب ما قدمت من شرح - رائين اثنتين أولاهما عليها علامة السكون التي
تجعلها تُلفظ راءاً خفيفة مفردة، والأخرى عليها العلامة الهائية التي تجعلها تُلفظ
متلازمة بالهاء، وستكون صورة كتابة لفظة (مُرّه) بالأحرف اليونانية هكذا: (μυῤῥἁ)،
ولكن حين تُعطيها لشخص يوناني وتطلب منه قراءتها، فسيقرؤها بهذا الصوت:
(مُوْرْرُه)، فلو فرضنا أنّ هذا الاسم قد ورد في كتاب إغريقي قديم بالصورة التي
أشرت إليها، وأراد كاتبٌ من الناطقين بإحدى اللغات اللاتينية كالإنجليزية – مثلاً
- ولديه خبرة كبيرة باللغة الإغريقية اليونانية ترجمة اللفظة اليونانية (μυῤῥἁ)
التي تعني (مُرّه) إلى لغته الإنجليزية، فسيكتبها هكذا: (Murrha) حسب
نطقها في اللغة اليونانية، وعلى العموم يظهر دائما وبوضوح التلفظ بالهاء في آخر
الكثير من الكلمات اليونانية التي تبدأ بالراء أو تتضمن حرف الراء، ولهذا السبب
فإنّ العديد من الكلمات الإنجليزية المشتقّة من اليونانية نراها تبدأ بـ (rh) أو
تتضمن (rrh) فيها.
إنّ
هذا الأمر الذي تم شرحه بالنسبة لحرف الراء اليوناني ولحوق العلامة الهائية به،
وكذلك عدم وجود الحرف المكافئ لحرف الهاء العربي في الأبجدية اليونانية القديمة هو
الذي حصل لاسم مدينتنا (جِرَّه) الذي سبق وذكرت أنه يُكتب بالحروف الهجائية
اليونانية هكذا (γέῤῥα)، ويلفظه اليونانيون بهذه الصورة (جيرْرَه)،
ولهذا فعندما تمت ترجمة الأعمال التاريخية التي ورد فيها اسم هذه المدينة كتاريخ
بوليبيوس وجغرافيا سترابو من اللغة الإغريقية اليونانية إلى اللغة اللاتينية،
ومنها الإنجليزية، فقد كُتبت بهذه الصورة: (Gerrha)
بمحاكاة السماع اللفظي اليوناني؛ تماماً كما فعل اليونان أنفسهم عندما كتبوا اسم
هذه المدينة عن أهلها، واللذين كانوا يتلفظون بها بتفخيم أو تشديد حرْف الرّاء،
فكتبها المؤرخون الإغريق كما سمعوها منهم مستعيضين عن التشديد الذي لم يكن في
لغتهم بكتابة رائين إحداهما ساكنة والأخرى بالعلامة الهائية، وعن حرف الهاء بحرف
الألِف (ألْفَا) في آخر الكلمة تماماً كما مرَّ بنا في لفظة (مُرّه).
وإذاً
فقد ثبت لنا الآن أنّ اللفظتين اللاتينيتين الإنجليزيتين لمدينتا (جِرَّه)، وهما (Gerra) و(Gerrha) هما - كما سبق وقلت - وجهان كتابيان للفظة واحدة هي الصورة
الأولى منهما أعني (Gerra)، والتي تساوي حروفها حروف التسمية
الإغريقية (γέῤῥα).
..
وقبل الانتقال إلى موضوع آخر أحب أنْ ألفت الانتباه إلى أنّ صحّة النطق السماعي
للاسم (Gerra) بالنسبة للغة العربية هو كما يلي:
G = ج e = ي r = ر r = ر a = ا
فيكون
اسمها العربي بالمحاكاة الصوتية هو (جيرْرَا)، ولأننا نعلم أنّ الحرف (e) أو
(έ) اليوناني هو حرفٌ غير مشبّع هنا، فهذا يعني أنه يُنطق في اللغة
العربية مثل الكسرة، وبالتالي فإنّ (جيررا) يمكنُ أنْ تُكتب (جِرْرَا)، ولكون
اللغة العربية نادراً ما تقبل بالتتالي لحرفين متشابهين في الأسماء المطلقة؛ بل
يتم حذف أحدهما، ويستعاض عنه بوضع علامة الشدة على الآخر، فإنّ حرفي الراء في
(جِرْرَا) سيدغمان في حرف واحد مشدّد، ويُنطق الاسم عندها (جِرّا)، وأخيراً فإنّ
من الواضح أنّ الحرف اليوناني ألْفَا (α) في آخر الكلمة مع العلامة الهائية على
الراء (ῥ) هو تعويض عن حرف الهاء العربي كما سبق وذكرتُ، وعليه فبإمكاننا
إعادته إلى أصله أي الهاء، فتصبح (جِرَّا) عندها هي (جِرَّهْ) بكسر الجيم، وتشديد
الرّاء مع فتحها، ثم هاءْ ساكنة في آخرها، وليس (جَرْهَا) أو (جَرْهَاءْ) كما
اجتهد بعض الباحثين العرب في ترجمتها.