عبيد الله بن الحرّ الجعفي، وحقيقة موقفه
من الإمامين عليّ والحسين عليهما السلام
عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي
اسمه
ونسبه وقبيلته جُعفي
هو عُبيْدُ الله بن الحُرِّ بنِ عمروٍ بنِ خالد
بنِ المجمع بن مالكِ بنِ كعب بن سعد بن عَوْفٍ بنِ حَرِيْم بنِ جُعْفِيّ بنِ سَعْدِ
العَشِيْرَةِ بن مَذْحِجِ بن أدَدِ بن زيد بن يَشْجُب بنِ عريْب بنِ زيدِ بنِ كَهْلانِ
بنِ سَبَأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بنِ قَحْطَاْنِ الجُعْفيُّ المذْحِجيُّ
القَحْطَاْنِيّ.
وتُعتبر قبيلته جُعْفِيّ واحدة من أشهر قبائل
اليمن قبل الإسلام، وبعده، ولاسيما في الكوفة؛ في العصور الإسلامية الأولى، وينتسب
لها الكثير من الفرسان والعلماء والشعراء، ومنهم أشهر شعراء العربية على الإطلاق:
أبو الطيب؛ أحمد بن الحسين الجُعفي المعروف بـ(المتنبي).
وقد اشتهرت هذه القبيلة عند سكنها في الكوفة بالتشيع لأهل البيت - عليهم السلام - حتى عُد مسجدها أحد أربع بقع مقدسة في الكوفة بحسب رواية رواها ابن الفقيه في كتابه البلدان، وعندما أراد لويس ما سينيون أن يثبت تشيع الشاعر المتنبي كان من أقوى أدلته على ذلك هو أنه من هذه القبيلة؛ كما قدمتْ هذه القبيلة الكثير من رجالات الشيعة الذين كانت لهم أيدٍ واضحة على مذهب التشيع لأهل البيت سلباً وإيجاباً، فكان منهم:
1. إبراهيم بن نصر بن القعقاع الجعفي: كوفي يروي عن
الإمامين الصادق والكاظم من أئمة الشيعة الاثني عشرية.
2. أبو يعقوب الجعفي الكوفي.
3. أحمد بن النضر الخزاز الجعفي الكوفي.
4. إسماعيل بن جابر الجعفي: روى عن الإمامين الباقر
والصادق من أئمة الشيعة الاثني عشرية.
5. إسماعيل بن عبد الرحمن الجُعفي
6. أيوب بن الحر الجعفي المعروف بـ(أخي أديم)؛ يروي
عن الإمام الصادق.
7. بدر بن المعقل بن جعونة بن عبد الله بن حطيط بن
عتبة بن الكداع الجُعفيّ، قتل مع الحسين بن علي عليه السلام بالطف؛ قاله الكلبي في
(نسب معد واليمن).
8. بسطام بن الحصين بن عبد الرحمن الجعفي ابن أخي
خيثمة وإسماعيل ابني عبد الرحمن؛ كان وجها في الشيعة الإمامية.
9. جابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث بن كعب بن
الحارث بن معاوية بن وائل بن مرار بن جعفي؛ أبو عبد الله - وقيل أبو محمد؛ حدّث عن
الإمامين الباقر والصادق من أئمة الشيعة الإمامية، ومات في أيام الصادق سنة ثمان
وعشرين ومائة.
10. الحارث بن حيان بن ربيعة بن ربيعة بن عوف بن
معاوية بن ذهل الجُعفيّ، شهد الجمل وصفين مع علي عليه السلام؛ قال ذلك الكلبي في
نسب جُعفي من كتابه (نسب معد واليمن الكبير).
11. حجاج بن مسروق بن مالك بن كتيف بن عتبة بن الكداع
الجُعفي؛ قتل مع الحسين بن علي عليه السلام بالطف، وكان معه في مسيره إلى كربلاء،
وهو الذي أرسله إلى ابن الحرّ عندما نزل الإمام قصر بني مقاتل في طريقه إلى
كربلاء، وكان عبيد الله مخيّمٌ فيه.
12. رشيد بن زيد الجعفي الكوفي؛ قال عنه النجاشي: ثقة
13. زحر بن قيس بن مالك بن معاوية بن سعنة؛ قال
الكلبي: كان من الفرسان، شهد صفّين مع علي بن أبي طالب عليه السلام، واستعمله على
المدائن.
14. زكريا بن الحر الجعفي أخو أديم وأيوب المتقدمين؛
روى عن الإمام الصادق.
15. سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر بن وداع بن معاوية
بن الحارث بن مالك الجُعفيّ؛شهد صفيناً مع الإمام علي عليه السلام؛ قاله الكلبي.
16. شُريح بن يزيد بن مرّة الجُعفي؛ شهد صفيناً مع
الإمام علي عليه السلام.
17. عبد الكريم بن هلال الجعفي الخزاز الكوفي المعروف
بـ(الخلقاني)؛ قال عنه النجاشي: ثقة عين؛ روى عن الإمام الصادق.
18. عبد الله بن محرز الجُعفي الكوفي؛ روى عن
الإمامين الباقر والصادق.
19. عبيد الله بن الحرّ الجُعفي (المترجم).
20. عقبة بن محرز الجعفي الكوفي؛ روى عن الإمام
الصادق.
21. عمرو بن خليفة الجُعفي؛ ذكر الكلبي أنه شهد صفين
مع علي بن أبي طالب عليه السلام.
22. عمرو بن شمر الجعفي؛ روى عن الإمام الصادق؛ قال
النجاشي: ضعيف جدا؛ زاد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه.
23. الفيض بن المختار الجعفي الكوفي؛ روى عن الباقر
والصادق والكاظم من أئمة الشيعة الاثني عشرية؛ قال عنه النجاشي: ثقة عين.
24. محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان؛ أبو الفضل
الجعفي الكوفي المعروف بالصابوني؛ قال النجاشي: سكن مصر،و كان زيديا، ثم عاد اثني
عشرياً، وكان له منزلة بمصر.
25. محمد بن فرات الجعفي الكوفي.
26. مفضل بن عمر الجعفي الكوفي؛ أبو عبد الله، وقيل
أبو محمد؛ قال النجاشي: فاسد المذهب؛ مضطرب الرواية لا يُعبأ به، وقيل إنه كان
خَطَّابيّاً.
27. يوسف بن يعقوب الجعفي الكوفي؛ روى عن الإمام
الصادق.
عبيد
الله بن الحرّ الجُعفي عند الرجاليين الشيعة
وحده النجاشي من رجاليي الشيعة الذي عدَّ ابنَ
الحرَّ من رجال الشيعة، وذكر أنّ له كتاباً يرويه عن الإمام علي بن أبي طالب عليه
السلام، فقال في كتابه (فهرست أسماء مصنفي الشيعة):
"عبيد الله بن الحر الجعفي: الفارس
الفاتك الشاعر؛ له نسخة يرويها عن أمير المؤمنين عليه السلام؛ قال أبو العباس أحمد
بن علي بن نوح: وقد ذكر ذلك البخاري فقال: إسماعيل بن جعفر بن أبي خصفة عن سليمان
بن يسار، وقال شريك: عن عمر بن حبيب عن عبيد الله بن حر؛ حديثه في الكوفيين؛[1]
قال أبو العباس حدثنا الحسين بن إبراهيم قال: حدثنا محمد بن هارون الهاشمي قال:
حدثنا محمد بن الحسن بن الحسين وعيسى بن عبد الله الطيالسي العسكري قالا: حدثنا
محمد بن سعيد الأصفهاني قال: حدثنا شريك؛ عن جابر؛ عن عمرو بن حريث؛ عن عبيد الله
بن الحر: أنه سأل الحسين بن علي - عليهما السلام - عن خضابه فقال: أما إنه ليس كما
ترون؛ إنما هو حناء، وكتم!".[2]
وكلُّ من ذكره من الرجاليين الشيعة بعد النجاشي،
فإنما أخذ ذلك عنه.
عبيد
الله بن الحرّ في كتب التاريخ
غير أنّ ما تذكره كتبُ التاريخ عن هذا الرجل لا
يوحي بعضُه بأنه كان من الشيعة، فبعض نصوص هذه الكتب تذكر أنّ عبيد الله بن الحرّ
الجُعفي كان مع معاوية، وبعضها يذكر أنه قاتل معه ضد الإمام علي في صفّين، وبعضها
الآخر يذكر أنه أبى أن ينصر الإمام الحسين عندما التقى به في الطريق إلى كربلاء،
وطلب منه النصرة، فأبى، وهذه النصوص تشكل مع ما ذكره النجاشي في جعله لهذا الرجل
ضمن رجال الشيعة؛ بل وأن يكون له كتاب خاص بالمذهب يرويه عن أمير المؤمنين علي
عليه السلام.
إلا أنه ينبغي لنا قبل أن نحكم هذا الحكم على هذا
الرجل أن نتمعن في بعض هذه الأخبار التي ذكرها المؤرخون عن هذه الشخصية، فقد يكون
فيها بعض الأخطاء، أو الاختلاق، أو التحامل.
ولنأخذ مثلاً على ذلك الرواية التي ذكرها الطبري
في تاريخه، والتي فيها النصُّ على أنّ عبيد الله بن الحرّ الجعفي قاتل إلى جانب
معاوية يوم صفّين ضد أمير المؤمنين علي – عليه السلام – فهذه الرواية انفرد بها
علي بن مجاهد بن سعيد الكابلي المتوفى بعد العام 180 للهجرة، وعن علي بن مجاهد
نقلها المدائني؛ علي بن محمد المتوفى عام 225 للهجرة، وعن المدائني نقلها أحمد بن
زهير بن حرب المعروف بابن أبي خيثمة صاحب التاريخ الكبير المتوفى عام 279 للهجرة،
وعن هذا الأخير نقلها أبو جعفر الطبري المتوفى عام 310 للهجرة في تاريخه، ثم نقلها
عن الطبري عدة مؤرخين جاءوا بعده، ومنهم ابنُ الأثير في تاريخه الذي أفرغ فيه
تاريخ الطبري كما نصَّ في مقدمته.
وعلي بن مجاهد الكابُليّ صاحب هذه الرواية مُدح
عند البعض، وذمّه البعض الآخر من رجال الحديث السنّة، وهم كثيرون، ولم أجده في كتب
رجال الشيعة، ومن الذين نقلوا ذمّه ما ذكره الخطيب البغدادي في ترجمته من (تاريخ
بغداد)؛ حيث قال:
"روى صالح بن محمد المعروف بجزرة، عن
يحيى بن معين في علي بن مجاهد كلاما عظيما، ووصفا قبيحا؛ قرأت في كتاب أبي الحسن
بن الفرات بخطه؛ أخبرنا محمد بن العباس الضبي الهروي؛ قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق
بن محمود الفقيه؛ قال: أخبرنا صالح بن محمد؛ قال: سمعت يحيى بن معين، وسُئل عن علي
بن مجاهد الرازي - ويعرف بالكابلي - قال: كان يضعُ الحديث، وكان صَنَّفَ كتابَ (المغازي)،
فكان يضع لكلامه إسناداً".[3]
وليس يحيى بن معين الذي نسب الكذب إلى علي بن
مجاهد، فقد نسب إليه الكذبَ أيضاً: يحيى بن الضّريس، ومحمّد بن مهران، وأبو جعفر
الجمّال؛ ولم يرضه محمد بن عمرو زنيجا، في حين قال الجوزجاني إنه غير ثقة، وعدّه
العُقيلي والذهبي في الضعفاء.
ونصُّ ما ذكره علي بن مجاهد الكابليّ من حديث
عبيد الله بن الحرّ الجعفي، وشهوده صفين وقتاله مع معاوية ضد الإمام علي في هذا
اليوم هو كما يلي نقلاً عن تاريخ الطبري، وما بين الشرطات إضافة مني للتوضيح:
"ذكر الخبر عن مقتل عبد الله بن الحر والسبب
الذي جر ذلك عليه: روى أحمد بن زهير – ابن أبي خيثمة - عن علي بن محمد – المدائني –
عن علي بن مجاهد – الكابلي – أن عبيد الله
بن الحر كان رجلا من خيار قومه صلاحاً وفضلاً، وصلاةً واجتهاداً، فلمّا قُتل عُثمان،
وهاج الهيجُ بين علي ومعاوية، قال: أما إن الله ليعلم أني أحب عثمان، ولأنصرنه مَيِّتَاً،
فخرج إلى الشام، فكان مع معاوية، وخرج مالك بن مسمع إلى معاوية على مثل ذلك الرأي
في العثمانية، فأقام عبيد الله عند معاوية، وشهد معه صفين، ولم يزل معه حتى قُتل
علي عليه السلام".[4]
وعن الطبري نقل هذا الكلام ابنُ الأثير في تاريخه
مختصراً ومجرّداً من السّنَد كعادته، فقال في أحداث 68 للهجرة:
"في هذه السنة قتل عبيد الله بن الحر
الجعفي، وكان من خيار قومه صلاحا وفضلا واجتهادا، فلما قتل عثمان ووقعت الحرب بين
علي ومعاوية قصد معاوية، فكان معه لمحبته عثمان، وشهد معه صفين هو ومالك بن مسمع،
وأقام عبيد الله عند معاوية".[5]
والمطلع على التاريخ يجد في هذه الرواية عند
الطبري خللاً واضحاً، وهو قول راويها في آخرها:
" فأقام عبيد الله عند معاوية، وشهد معه
صفين، ولم يزل معه حتى قُتل علي عليه السلام".
لأنه سوف نرى في روايات أخرى كثيرة ذكرها أكثر من
راوٍ ومؤرخ أنّ عبيد الله بن الحرّ لم يبقَ في الشام حتى قتل الإمام علي عليه
السلام؛ بل إنّه رجع إلى الكوفة في حياة الإمام، وذلك بعد أنْ وقعت بينه وبين
معاوية وعمرو بن العاص مشادة في الإمام علي ذكر ابن الحرّ فيها رأيه بكل جرأة في
أنّ معاوية كان على باطلٍ في قتاله للإمام علي، وأنه عندما رجع إلى الكوفة وجد
امرأة له قد زوجها إخوتها لآخر غيره بسبب طول غيابه في الشام، فقاضاهم إلى الإمام
علي في ذلك، وهذه الرواية نقلها أكثر من مؤرخ كما قلت، واتخذها بعض الفقهاء مرجعاً
لهم في الحكم في مثل هذه الحالة إذا وقعت، فمن الفقهاء القدماء الذين ذكروها سعيد
بن منصور بن شعبة الخراساني المتوفى عام 227 للهجرة، فقد قال في كتابه (السنن):
"حدثنا سعيد، نا هشيم، عن الشيباني، قال:
أخبرني عمران بن كثير النخعي أن عبيد الله بن الحر تزوج جارية من قومه، يقال لها
الدرداء، زوجها إياه أبوها، فانطلق عبيد الله فلحق بمعاوية فأطال الغيبة عن أهله،
ومات أبو الجارية، فزوجها أهلها من رجل منهم يقال له عكرمة، فبلغ ذلك عبيد الله
فقدم، فخاصمهم إلى علي، فلما دخل على علي قال له: لحقت بعدونا وظاهرت علينا، وفعلت
وفعلت، فقال: أو يمنعني ذلك عندك من عدلك؟ قال: لا، فقصُّوا عليه قصتهم، فرد عليه
المرأة، وكانت حاملا من عكرمة، فوضعها على يدي عدل، فقالت المرأة لعلي: أنا أحق
بمالي أو عبيد الله؟ قال: بل أنت أحق بذلك. قالت: فاشهدوا أن كل ما كان لي على
عكرمة من شيء من صداق فهو له. فلما وضعت ما في بطنها ردها علي على عبيد الله بن
الحر، وألحق الولد بأبيه".[6]
وإذاً، فهذا ينقض ما ورد في رواية ابن مجاهد من
أنه بقي في الشام إلى أن قُتل الإمام علي عليه السلام، وأيضاً ذكر البلاذري رواية
مناقضة لرواية الطبري عن أبي مسلم الأحمري الذي يرويها عن أبي المنذر هشام بن محمد
الكلبي؛ الذي يرويها عن جرير بن عمرو الجعفي - الذي كان عبيد الله بن الحرّ جدّه
لأمه العالية بنت الأسعر بن عبيد الله بن الحر – ورواها الكلبي أيضاً عن لوط بن
يحيى المعروف بـ(أبو مخنف)، ونصُّ هذه الرواية:
"حدثني عبد الرحمن الأحمري- أبو مسلم-
أنبأنا هشام بن محمد الكلبي حدثنا جرير بن عمرو الجعفي- وكانت أمه العالية بنت
الأسعر بن عبيد الله بن الحر- قال: وحدثني لوط بن يحيى- أبو مخنف- ببعضه عن أشياخه
قال: شهد عبيد الله بن الحر القادسية مع خاليه زهير ومرثد ابني قيس بن مشجعة بن
المجمع، وكان شجاعا فاتكا لا يعطي الأمراء طاعة، ثم إنه صار مع معاوية بن أبي
سفيان، فكان يكرمه، فبلغ معاوية أنه يجتمع إليه جموع من أصحابه فسأله عنهم فقال:
بطانتي وأصحابي وإخواني أتقي بهم إن نابني أمر أو خفت ظلامة من أمير جائر، فقال له
معاوية: لعل نفسك قد تطلعت إلى علي بن أبي طالب، فقال: إن عليا لعلى الحق وأنت
بذلك عالم، فقال عمرو بن العاص: كذبت يا بن الحر فقال: أنت وأبوك أكذب مني، ثم خرج
من عند معاوية مغضبا يريد الكوفة في خمسين فارسا".[7]
وكما نرى فإنّ هذه الرواية ليس فيها أنّ عبيد
الله بن الحرّ قاتل مع معاوية ضدّ الإمام علي يوم صفّين، وكل الذي فيها أنه صار مع
معاوية، ولا تحدد الرواية زمن صيرورته مع معاوية؛ هل هو في يوم صفّين أم قبله أم
بعده؛ إلا أنّ رواية أبي مخنف التي أجمل الكلبي بعضها في روايته هذه قد حفظها
الأديب والنحوي أبو سعيد السكريّ في كتابه (أشعار وأخبار اللصوص)، ونقلها عن هذا
الكتاب – المفقود باستثناء قطعة منه – البغدادي في كتابه (خزانة الأدب)، ونظراً
لأنها تختلف بعض الشيء عن الروايتين السابقتين – ولاسيما فيما يتعلق بدفاع ابن
الحرّ عن نفسه أمام أمير المؤمنين علي عليه السلام – فإنني سأذكر هذه الرواية، أو
موضع الشاهد منها نقلاً عن البغدادي في كتابه (خزانة الأدب)،وهو قوله:
"قال أبو سعيد السكري في كتاب اللصوص
بسنده إلى أبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد الأزدي قال: كان من حديث عبيد الله بن
الحر: أنه كان شهد القادسية مع خاليه: زهير ومرثد ابني قيس بن مشجعة، وكان شجاعاً
لا يعطي الأمراء طاعة ثم صار مع معاوية فكان يكرمه وكان ينتاب عبيد الله أصحابٌ له
فبلغ ذلك معاوية فبعث إليه فدعاه فلما دخل عليه قال: يا ابن الحر ما هذه الجماعة
التي بلغني أنها ببابك قال: أولئك بطانتي أقيهم وأتقي بهم إن ناب جور أمير، فقال
معاوية: لعلك يا ابن الحر قد تطلعت نفسك نحو بلادك ونحو علي بن أبي طالب؟؛ قال
عبيد الله: إن زعمتَ أنَّ نفسي تَطَلَّعُ إلى بلادي وإلى علي إني لجدير بذاك، وإنه
لقبيح بي الإقامة معك وتركي بلادي، فأما ما ذكرت من علي فإنك تعلم أنك على الباطل،
فقال له عمرو بن العاص: كذبت يا ابن الحر وأثمت، فقال عبيد الله: بل أنت أكذب مني،
ثم خرج عبيد الله مغضباً وارتحل إلى الكوفة في خمسين فارساً وسار يومه ذلك حتى إذا
أمسى بلغ مسالح معاوية فمُنع من السير فشد عليهم وقتل منهم نفراً وهرب الباقون
وأخذ دوابهم وما احتاج إليه ومضى لا يمر بقرية من قرى الشام إلا أغار عليها حتى
قدم الكوفة وكانت له امرأة بالكوفة وكان أخذها أهلها فزوجوها من عكرمة فولدت له
جارية فقدم عبيد الله فخاصمهم إلى علي بن أبي طالب، فقال له: يا ابن الحر أنت الممالئ
علينا عدونا؟!، فقال ابن الحر: أما إنّ ذلك لو كان لكان أثَرِيْ معه بَيّناً، وما
كان ذلك مما يُخاف من عدلك، وقاضَى الرجلَ إلى علي، فقضى له بالمرأة، فأقام عبيد
الله معها منقبضاً عن كل أمر في يدي علي حتى قُتل علي - رضي الله عنه - وحتى ولي
عبيد الله بن زياد وهلك معاوية وولي يزيد وكان من أمر الحسين ما كان".[8]
فهذه الروايات – كما نرى – تدلُّ على أنّ عبيد
الله بن الحرّ لم يبقَ مع معاوية حتى مقتل الإمام علي كما في رواية ابن مجاهد
الطبرية؛ بل تنصُّ هذه الروايات على أنه هجر معاوية بعد أن أسمعه كلاماً قويّاً
جابهه فيه بقوله إنّ الإمام علي كان هو على الحق، وأنّ معاوية على باطل.
لقاء
الإمام الحسين مع ابن الحرّ عند مسير الإمام إلى كربلاء
تدل الرّوايات التاريخية التي ذكرت لقاء عبيد
الله بن الحرّ مع الإمام الحسين عند قصر بني مقاتل قرب الكوفة من العراق على أدب
رفيع أبداه ابن الحرّ تجاه الإمام الحسين عليه السلام، فهو كان في كلامه معه لا
يخفي إعجابه بالإمام، وحبّه له، وخوفه عليه من القتل، ولكنه عندما دعاه الإمام إلى
القتال معه كان ابن الحرّ قد رأى أنّ جلّ من كتب إلى الإمام من أهل الكوفة قد
ركنوا إلى الدعة وعدم الخروج معه، ورأى في الوقت ذاته جيشاً ضخماً تم تجهيزه لقتال
الإمام الحسين لا يمكن أن ينجو منه الإمام والنفر القليل الذين كانوا معه، وعلم
بنظرته الثاقبة أنّ الإمام الحسين سوف يُقتل لا محالة، ولذلك لم تسخُ نفسه بالانضمام
إلى ركب الإمام، فاعتذر إليه بلطف، وعلى كلّ حال، فإنّ من يقرأ سيرة كربلاء، فسيجد
أنّ الإمام الحسين نفسه عندما خطب في أهله وأصحابه في الليلة التي كان سيُقتل في النهار
الذي سيليها قد أذن لأصحابه في مفارقته وأن لا يقتلوا أنفسهم لأجله؛ بل طلب منهم
أن يأخذ كل واحدٍ منهم بيد رجل من أهل بيته، وأن يتخذوا الليل ستراً لهم ويرحلوا
تاركين له بمفرده لأنّ الجيش الكبير الذي يواجههم إنما همّه هو الحسين وليس هم؛
لكنّ أصحابه الذين قُتلوا معه ضربوا أروع الأمثلة في رفضهم لتركه وحيداً، وأبو إلا
أن يُقتلوا دونه، وهو ما لم تسمح به نفس ابن الحرّ الذي أنا أجزم بأنه كان يحبُّ
الإمام الحسين كثيراً، ولكن ليس إلى الحدّ الذي كان أنصار الحسين هؤلاء الذين بقوا
معه قد أبدوه له بحيث ضحّوا بأغلى ما كانوا يملكونه وهي أرواحهم لأجله، وأما ابن
الحرّ، فقد طلب السلامة لنفسه، ولو أنّ أحد أصحاب الإمام الحسين الذين قُتلوا معه
قد رضي بكلام الإمام واتخذ الليل ستراً له وهرب بنفسه من أرض كربلاء، فما كمنت
لأظنَّ بأنّ الإمام – عليه السلام – كان ليغضب عليه؛ كيف وهو الذي طلب منهم ذلك،
وأرى لذات السبب أنّ الإمام الحسين لم يغضب على ابن الحرّ عندما طلب منه إعفاءه من
القتال معه؛ بل على العكس من ذلك، فإنه عندما اعتذر إليه عن القتال معه نصحه
الإمام بتلك النصيحة التي رجا له بها المغفرة من الله، وهي أنه طلب منه أن يبتعد
عن أرض المعركة بحيث لا يسمع استغاثات الإمام وأهله لأنّ الاستماع إليها وعدم إغاثتهم
عند القتال هو حوب كبيرٌ لا يُغتفر.
ولكي نقف على الأدبيات التي تدلُّ على حب ابن
الحرّ للإمام الحسين وخوفه عليه من القتل فإنني سوف أعرض أشهر الروايات التي ذكرت
لقاءه معه عند قصر بني مقاتل، وهي كما يلي:
رواية
أبي مخنف
قال أبو مخنف: "لما أقبل الحسين بن علي - رضوان
الله عليهما - فأتى قصر بني مقاتل، فلما قَتَلَ عبيدُ الله بن زياد مُسْلمَ بن
عقيل بن أبي طالب وتحدث أهل الكوفة: أن الحسين يريد الكوفة خرج عبيد الله بن الحر
منها متحرجاً من دم الحسين ومن معه من أهل بيته حتى نزل قصر بني مقاتل ومعه خيل
مضمرة ومعه ناس من أصحابه، فلما قدم الحسين رضي الله تعالى عنه قصر بني مقاتل ونزل؛
رأى فسطاطاً مضروباً فقال: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله بن الحر الجعفي ومع
الحسين يومئذ الحجاج بن مسروق وزيد[9]
بن معقل الجُعفيان، فبعث إليه الحسين الحجاج بن مسروق فلما أتاه قال له: يا ابن
الحر أجب الحسين بن علي، فقال له ابن الحر: أبلغ الحسين: أنه إنما دعاني إلى
الخروج من الكوفة - حين بلغني أنك تريدها - فرارٌ من دمك ودماء أهل بيتك ولئلا
أعين عليك وقلت إن قاتلته كان علي كبيراً وعند الله عظيماً وإن قاتلت معه ولم أقتل
بين يديه كنت قد ضيعت قتله، وأنا رجل أحمى أنفاً من أن أمكن عدوي فيقتلني ضيعة،
والحسين ليس له ناصر بالكوفة ولا شيعةٌ يقاتل بهم.
فأبلغ الحجاج الحسين قول عبيد الله، فعظم عليه
فدعا بنعليه ثم أقبل يمشي حتى دخل على عبيد الله بن الحر الفسطاط فأوسع له عن صدر
مجلسه وقام إليه حتى أجلسه، فلما جلس قال يزيد بن مرة: فحدثني عبيد الله بن الحر قال:
دخل علي الحسين - رضي الله عنه - ولحيته كأنها جناح غراب وما رأيت أحداً قط أحسن
ولا أملأ للعين من الحسين ولا رققت على أحد قط رقتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان
حوله فقال له الحسين: ما يمنعك يا ابن الحر أن تخرج معي قال ابن الحر: لو كنت
كائناً من أحد الفريقين لكنت معك ثم كنت من أشد أصحابك على عدوك، فأنا أحب أن
تعفيني من الخروج معك ولكن هذه خيل لي معدة وأدلاء من أصحابي وهذه فرسي المحلقة
فاركبها فوالله ما طلبت عليها شيئاً قط إلا أدركته ولا طلبني أحدٌ إلا فته فاركبها
حتى تلحق بمأمنك وأنا لك بالعيالات حتى أؤديهم إليك أو أموت وأصحابي عن آخرهم،
وأنا كما تعلم إذا دخلت في أمر لم يَضِمْنيْ فيه أحد؛ قال الحسين: أفهذه نصيحة لنا
منك يا ابن الحر؟!؛ قال: نعم والله الذي لا فوقه شيء، فقال له الحسين: إني سأنصح
لك كما نصحت لي؛ إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل فوالله لا
يسمع داعيتنا أحدٌ لا ينصرنا إلا أكبه الله في نار جهنم ثم خرج الحسين من عنده
وعليه جبة خز وكساءٌ وقلنسوة موردة؛ قال: ثم أعدت النظر إلى لحيته فقلت: أسوادٌ ما
أرى أم خضاب؟ قال: يا ابن الحر عجل عليَّ الشيب، فعرفت أنه خضاب.
وخرج عبيد الله بن الحر حتى أتى منزله على شاطئ
الفرات فنزله، وخرج الحسين - رضي الله عنه - فأصيب بكربلاء ومن معه وأقبل ابن الحر
بعد ذلك فمرَّ بهم فلما وقف عليهم بكى".[10]
رواية
ابن أعثم الكوفي
"قال وسار الحسين عليه السلام حتى نزل في
قصر بني مقاتل، فإذا هو بفسطاط مضروب ورمح منصوب وسيف معلق وفرس واقف على مذوده،
فقال الحسين: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لرجل يقال له عبيد الله بن الحر الجعفي قال:
فأرسل الحسين برجل من أصحابه يقال له الحجاج بن مسروق الجعفي.
فأقبل حتى دخل عليه في فسطاطه فسلم عليه فرد عليه
السلام، ثم قال: ما وراءك؟ فقال الحجاج: والله! ورائي يا بن الحر! والله قد أهدى
الله إليك كرامة إن قبلتها! قال: وما ذاك؟ فقال: هذا الحسين بن علي رضي الله عنهما
يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلت بين يديه أجرت، وإن مت فإنك استشهدت! فقال له عبيد الله:
والله ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين بن علي وأنا فيها، فلا أنصره لأنه
ليس له في الكوفة شيعة ولا أنصار إلا وقد مالوا إلى الدنيا إلا من عصم الله منهم،
فارجع إليه وخَبّرْه بذاك.
فأقبل الحجاج إلى الحسين فخبره بذلك، فقام الحسين
ثم صار إليه في جماعة من إخوانه، فلما دخل وسلم وثب عبيد الله بن الحر من صدر
المجلس، وجلس الحسين فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، يا بن الحر! فإن
مصركم هذه كتبوا إلي وخبروني أنهم مجتمعون على نصرتي وأن يقوموا دوني ويقاتلوا عدوي،
وأنهم سألوني القدوم عليهم، فقدمت ولست أدري القوم على ما زعموا لأنهم قد أعانوا
على قتل ابن عمي مسلم بن عقيل - رحمه الله - وشيعته، وأجمعوا على ابن مرجانة عبيد
الله بن زياد يبايعني ليزيد بن معاوية، وأنت يا بن الحر فاعلم أن الله عز وجل
مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى
توبة تغسل بها ما عليك من الذنوب، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت، فإن أعطينا حقنا
حمدنا الله على ذلك وقبلناه، وإن مُنعنا حقنا ورُكبنا بالظلم كنت من أعواني على
طلب الحق، فقال عبيد الله بن الحر: والله يا ابن بنت رسول الله لو كان لك بالكوفة أعوان
يقاتلون معك لكنت أنا أشدهم على عدوك، ولكني رأيت شيعتك بالكوفة وقد لزموا منازلهم
خوفا من بني أمية ومن سيوفهم، فأنشدك بالله أن تطلب مني هذه المنزلة، وأنا أواسيك
بكل ما أقدر عليه وهذه فرسي ملجمة، والله ما طلبت عليها شيئا إلا أذقته حياض الموت،
ولا طُلبتُ وأنا عليها فلُحِقتُ، وخذ سيفي هذا فوالله ما ضَرَبتُ به إلا قطعت،
فقال له الحسين رضي الله عنه: يا بن الحرّ ما جئناك لفرسك وسيفك، إنما أتيناك
لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك ولم أكن
بالذي اتخذ المضلين عضدا، لأني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو
يقول: " من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقهم إلا أكبه الله على وجهه
في النار ". ثم سار الحسين رضي الله عنه من عنده ورجع إلى رحله.
فلما كان من الغد رحل الحسين، وندم ابن الحر على
ما فاته من نصرته، فأنشأ
يقول:
أراها حسرة ما دمت حيا * تردد بين صدري والتراقي..
الخ".[11]
رواية
الدينوري
" ثم ارتحل الحسين من موضعه ذلك متيامناً عن
طريق الكوفة حتى انتهى الى قصر بنى مقاتل، فنزلوا جميعا هناك، فنظر الحسين الى
فسطاط مضروب، فسال عنه، فاخبر انه لعبيد الله بن الحر الجعفي، وكان من اشراف اهل الكوفة،
وفرسانهم، فأرسل الحسين اليه بعض مواليه يأمره بالمصير اليه، فأتاه الرسول، فقال: هذا
الحسين بن على يسألك ان تصير اليه، فقال عبيد الله: والله ما خرجت من الكوفة الا
لكثرة من رايته خرج لمحاربته، وخذلان شيعته، فعلمت انه مقتول ولا اقدر على نصره،
فلست أحب ان يراني ولا أراه، فانتعل الحسين حتى مشى، ودخل عليه قُبَّته، ودعاه الى
نصرته، فقال عبيد الله: والله انى لأعلم أنَّ من شايعك كان السعيدَ في الآخرة،
ولكن ما عسى أن أغنى عنك، ولم أخلف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك الله ان تحملني على
هذه الخطة، فانّ نفسي لم تسمح بعد بالموت، ولكن فرسي هذه الملحقة، والله ما طلبت
عليها شيئا قط الا لحقته، ولا طلبني وانا عليها احد قط الا سبقته، فخذها، فهي لك؛ قال
الحسين: اما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجه لنا الى فرسك".[12]
وإذا كانت هاتان الروايتان تنصّان على أنّ الإمام
الحسين لم يقبل هديتي ابن الحُرّ، فتوجد رواية للبلاذري رواية في كتابه (أنساب
الأشراف) تدلُّ على أنّ الإمام الحسين قد قبل الفرس على أقل تقدير كهدية من ابن
الحرّ، فقد جاء في هذه الرواية قوله:
"وكان مع الحسين فرس يدعى لاحقا- يقال: إن
عبيد الله بن الحر أعطاه إياه حين لقيه- فحمل عليه أبنه علي بن الحسين".[13]
فإذا صحّ أن الإمام الحسين قد قبل هدية ابن
الحُرّ هذه، فهو لم يكن غاضباً عليه، وإلا لما قبل هديته.
موقف
ابن الحرّ بعد وقعة كربلاء وما فعله ثأراً للإمام الحسين
لقد كان لوقعة كربلاء وقتل الإمام الحسين وقعُه
المؤلم والشديد في نفس عبيد الله بن الحرّ وقلبه، فقد ندم على عدم نصرته للإمام
حين دعاه ندماً عظيماً ذكره كثيراً في شعره، وهو ما جعله يصمم على الأخذ بثأر الإمام
الحسين، ولكن على طريقته التي اشتهر بها في التاريخ، وهي الهجوم على خزائن
الولايات الطرفية التابعة للدولة الأموية، والتي عليها ولاتها، فيأخذ ما فيها من
أموال، وما يجلبه جُبَاتُهم من البلدان، ويوزعه على رجاله وعلى قومٍ فقراء في الكوفة،
وهو ما يتضح لنا من رواية للطبري جاء فيها قوله:
"فلما هرب عبيد الله بن زياد، ومات يزيد بن
معاوية، قال عبيد الله بن الحر لفتيانه: قد بَيَّنَ الصُّبْحُ لذي عينين، فإذا شئتم،
فخرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم من الجبل للسلطان إلا أخذه، فأخذ منه عطاءه وأعطية
أصحابه، ثم قال: إن لكم شركاء بالكوفة في هذا المال قد استوجبوه".[14]
وأما عن سيرته في حروبه هذه، فقد كان عفيفاً عن
النساء وعن أموال التجار والناس العاديين الذين لا دخل لهم مع السلطان، وهو ما
نفهمه من رواية للطبري أيضاً قال فيها الراوي الذي نقل عنه الطبري للراوي الذي
يروي عنه:
"قال: قلتُ: فهل كان يتناول أموال الناس والتجار؟
فقال لي: إنك لغير عالم بأبي الأشرس، والله ما كان في الأرض عربي اغير على حرة ولا
أكف عن قبيح وعن شراب منه".[15]
وكما نرى فإنّ غارات ابن الحرّ لم تكن لأجل نهب
الناس الآمنين أو سرقة أموالهم وهتك نسائهم، وإنما كانت مقصورة على أموال السلطان،
وهم بنو أمية، ولكن الأمويين ومؤرخيهم لا يقولون ذلك؛ بل يرونه خارجاً على القانون
الذي هو قانونهم فصيّروا منه لصّاً فاتكاً نهَّابَة صعلوكاً مخالفاً كما كانوا يفعلون
مع كل من خرج عليهم، ولكنه في نظر أصحابه والكثيرين غيرهم لاسيما من المظلومين كان
بطلاً مغواراً يأخذ بحق الضعيف منهم، ويرد لهم مستحقاتهم التي حرمهم منها
الأمويون، وفوق ذلك، فقد كان في نظرهم من المطالبين بثأر الإمام الحسين عليه
السلام، وهو ما يتضح لنا من رواية ذكرها الدينوري، ويتضح منها أنّ ما يذكره
المؤرخون من إغارات عبيد الله بن الحرّ على البلدان هو بغير ما أوّله بعض المؤرخين
من أنه إفسادٌ في الأرض؛ بل تبيّن هذه الرواية أنّ ابن الحرّ إنما خرج مغيراً على
مصالح بني أمية وولاتهم انتقاماً لمقتل الإمام الحسين، ولنستمع إلى رواية الدينوري
التي يقول فيها واصفاً ندم عبيد الله بن الحرّ بعد رفضه نصرة الإمام الحسين:
"قالوا: وإنّ عبيد الله بن الحر ندم على
تركه اجابة الحسين حين دعاه بقصر بنى مقاتل الى نصرته، وقال:
فيا لك حسره ما دمت حيا تردد بين حلقى
والتراقى
حسين حين يطلب بذل نصري على اهل العداوة
والشقاق
فما انسى غداه يقول حزنا اتتركني وتزمع
لانطلاق؟
فلو فلق التلهف قلب حي لهم القلب منى بانفلاق
ثم مضى نحو ارض الجبل مغاضبا لابن زياد، واتبعه
اناس من صعاليك الكوفة".[16]
ووفق هذه الرواية، فإنّ ذهاب ابن الحرّ إلى الجبل
والاختفاء في مغاراته إنما كان ذلك بعد ندمه على تركه نصرة الإمام الحسين – عليه السلام
– ومغاضبة منه لعبيد الله بن زياد الذي
جيَّش الجيش الذي قتل الإمام الحسين، وتوجد رواية أخرى للدينوري أكثر وضوحاً من
هذه الرواية تثبت أنّ غارات عبيد الله بن الحرّ على أطراف ولايات الأمويين إنما
كانت بقصد الثأر للإمام الحسين، وغضباً لمقتله، وهي قول الدينوري بعد أن ذكر قيام
المختار بن أبي عبيد الثقفي طالباً بدم الحسين:
"وإنّ المختارَ كتبَ الى عبيدِ الله بن
الحُرّ الجُعْفِيُّ - وكان بناحيه الجبل يَتَطَرَّفُ ويُغِيْرُ - انما خَرَجْتَ غَضَباً
للحسينِ، ونحنُ أيضاً ممن غَضِبَ لَهْ، وقد تَجَرّدنا لنطلب بثأره، فأعنا على ذلك".[17]
إلا أنّ عبيد الله بن الحرّ الذي عُرف عنه أنه لم
يكن ينقاد لأحد من الولاة، والذي رأينا كيف أنه لم ينقد للإمامين العظيمين؛ علي
والحسين – عليهما السلام – أنِفَ أن ينقاد إلى من هو دونهما بكثير عنده، وهو المختار،
فلم يجبه الى ما طلبه منه حتى وإن غلَّفه بطلب الثأر للإمام الحسين الذي كان عبيد
الله بن الحرّ يطالب به هو الآخر كما رأينا في نصّ هاتين الروايتين للدينوري، وما
سنراه في شعره الكثير الذي قاله في رثاء الحسين وأهل بيته وأصحابه، ففيه إشارات
واضحة إلى أنه طَالَبَ بثأره.
أخبار
ذكرت عن ابن الحرّ تدلُّ على حبه لشيعة أمير المؤمنين
فمن ذلك حزنه وتلهفه على حجر بن عدي ومن معه من
شهداء (مرج عذراء)، فقد روى البلاذري عند ذكره لأخبار حجر كلاماً جميلاً لعبيد
الله بن الحرّ يدلُّ على حبه لحجر بن عدي وتألمه على قتله ومن معه حين مرّوا بهم
عليه، وهو في الشام، فقال حين علم أنهم يُساقون إلى معاوية ليقتلهم:
"ألا أجد خمسين فارساً؟! ألا عشرين؟!!
ألا خمسة نفر؟!!! يتبعوني فأتخلصهم؟! فلم يجبه أحد".[18]
شعر
عبيد الله بن الحر في رثاء الإمام الحسين وندمه على تأخره عن نصرته
وأما أشعار ابن الحرّ في ندمه على عدم نصرته
للإمام الحسين، فهي من أرقّ الأشعار وأكثرها حرارة ولوعة، وهي تشهد على أنه كان
بالفعل نادماً ومتألماً لأنه لم ينصره، وهذه الأشعار مشهورة النسبة له، ورواها
أكثر من مؤرخ وأديب، ومنها ما ذكرها ابن سعد في الطبقات الكبرى، وهي بهذا النص:
"قال: ولقي عبيد الله بن الحر الجعفي
حسينَ بن علي، فدعاه حسين إلى نصرته والقتال معه فأبى، وقال: قد أعييت أباك قبلك؛
قال: فإذا أبيت أن تفعل فلا تسمع الصيحة علينا فو الله لا يسمعها أحد ثم لا ينصرنا
فيرى بعدها خيرا أبداً؛ قال عبيد الله: فو الله لهبت كلمته تلك فخرجت هاربا من
عبيد الله بن زياد مخافة أن يوجهني إليه، فلم أزل في الخوف حتى انقضى الأمر، فندم عبيد
الله على تركه نصرة حسين رضي الله عنه فقال:
يقول أمير غادر حق غادر
ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه
ونفسي على خذلانه واعتزاله
وبيعة هذا الناكث العهد لائمه
فيا ندما ألا أكون نصرته
ألا كل نفس لا تسدد نادمه
وإني لأني لم أكن من حماته
لذو حسرة ما أن تفارق لازمه
سقى الله أرواح الذين تأزروا
على نصره سقيا من الغيث دائمه
وقفت على أجداثهم ومجالهم
فكاد الحشا يرفض والعين ساجمه
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى
سراعا إلى الهيجا حماة خضارمه
تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم
بأسيافهم آساد غيل ضراغمه
وقد طاعنوا من دونه برماحهم
عصائب بور نابذتهم مجارمه
فإن يقتلوا فكل نفس زكية
على الأرض قد أضحت لك اليوم واجمه
وما إن رأى الراؤون أصبر منهم
لدى الموت سادات وزهرا قماقمه
أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا
فدع خطة ليست لنا بملائمه
لعمري لقد رغمتمونا بقتلهم
فكم ناقم منا عليكم وناقمه
أهم مرارا أن أسير بجحفل
إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه
فكفوا وإلا زرتكم في كتائب
أشد عليكم من زحوف الديالمه
وقال عبيد الله بن الحر أيضا: -
أيرجو ابن الزبير اليوم نصري
بعاقبة ولم أنصر حسينا
وكان تخلفي عنه تبابا
وتركي نصره غبنا وحينا
ولو أني أواسيه بنفسي
أصبت فضيلة وقررت عينا
وقال أيضا في ندمه على ترك نصرة الإمام:
فيا لك حسرة ما دمت حيا
تردد بين حلقي والتراقي
حسينا حين يطلب بذل نصري
على أهل العداوة والشقاق
ولو أني أواسيه بنفسي
لنلت كرامة يوم التلاقي
مع ابن المصطفى نفسي فداه
فولى ثم ودع بالفراق
غداة يقول لي بالقصر قولا
أتتركنا وتزمع بانطلاق
فلو فلق التلهف قلب حي
لهم اليوم قلبي بانفلاق
فقد فاز الأولى نصروا حسينا
وخاب الآخرون أولو النفاق"
نتيجة
البحث:
وبعد فإننا نخلص من هذا البحث إلى عدة نقاط أوجزها
فيما يلي:
· إنّ عبيد الله بن الحرُّ كان محباً ومتشيعاً للإمام
عليّ عليه السلام، وإن كان تشيعه لم يصل إلى حد التشرُّب واليقين الذي كان عند شيعة
الإمام علي الآخرين الذين حاربوا معه ببصيرة في الجمل وصفين والنهروان.
· على الرغم من اتفاق الرواة والمؤرخين على أنّ ابن
الحرّ كان في الشام عندما وقعت حرب صفين بين الإمام علي ومعاوية؛ إلا أنه اتضح لنا
من نصّ أبي مخنف وغيره أنّه لم يشارك في هذه الحرب ولا قاتل فيها ضد الإمام علي،
وإلا لو فعل ذلك لاشتهر وبان موقفه كما قال هو مدافعاً عن نفسه أمام أمير المؤمنين
علي عندما جاءه مخاصماً لأهل امرأته، ومما يقوّي هذا القول هو أنّ ابن الحرّ لم
يُذكر في أهم كتابين تناولا حرب صفّين،
وهما (كتاب صفّين) لنصر بن مزاحم، و(الغارات) للثقفي، فلو شارك ابن الحرّ في هذه
الحرب لما خلا هذان الكتابان من ذكره.
· ويمكن أن نلاحظ ذلك أيضاً فيما قاله عبيد الله بن
الحرّ للإمام علي عليه السلام نافياً أنه قاتل مع معاوية ضده، وذلك عندما قاله له
الإمام: "يا ابن الحر أنت الممالئ علينا عدونا؟!"، فقال ابن
الحر: "أما إنّ ذلك لو كان لكان أثَرِيْ معه بَيّناً"، فهذه تبرئة
صريحة لنفسه أمام الإمام، ولو كان قد شارك في الحرب ضده لما أمكنه إنكار ذلك لأنه
كان رجلاً مشهوراً في الكوفة عاصمة الإمام.
· كذلك ينبغي إنعام النظر إلى قول أبي مخنف في
روايته التي ذكر فيها أحوال ابن الحرّ، ولاسيما قوله فيها: "فكان منقبضاً
عن كل أمر في يدي علي" يعني بذلك أنّ ابن الحرّ بعد أن عاد من الشام إلى
الكوفة في آخر عهد الإمام، فإنه لم يكن يغير على البلدان التي كانت تحت حكم أمير
المؤمنين حال حياته، ولكنه صار يغير عليها بعد تولي معاوية وابنه يزيد للحكم بعده.
· أما موقف ابن الحرّ مع الإمام الحسين، فقد كان
أيضاً موقف محبّ له، ولكنّ حبّه هذا لم يسمح له بأن يجود بنفسه لأجله؛ غير أنّ هذا
الأمر تغيّر باختلاف جذري بعد مقتل الإمام، فقد لام ابن الحرّ نفسه كثيراً على عدم
استجابته للإمام عندما طلب منه النصرة، وندم على ذلك أشد النَّدم كما تدل على ذلك
أقوال المؤرخين وأشعاره.
· كما ينبغي أن نلاحظ أيضاً من النصوص المتقدمة أنّ
الإمام الحسين – عليه السلام – لم يغضب عليه لعدم مناصرته له؛ بل كان – على العكس –
شفيقاً عليه عندما طلب منه أن يذهب إلى
مكانٍ لا يسمع فيه استغاثته ولا يرى الوقعة التي سيخوضها حتى لا يُعاقب على تركه
نصرة الإمام حال رؤيته وهو بحاجة إلى النصرة.
· ووجدنا في هذا البحث أن شعر عبيد الله بن الحر قد
قدَّمَ لنا أكثر من دليل على أنه ندم على ما فرط منه بحق الإمام الحسين، وهو واضح
في شعره الذي ذكرته في هذا البحث، ولا يحتاج إلى توضيح أو تبيين.
· يمكننا تشبيه حالة عبيد الله بن الحر بحالة الحرّ
بن يزيد الرياحي في التردد في نصرة الإمام الحسين؛ إلا أنّ الحرّ بن يزيد قطع الشك
باليقين في حالته، واختار جانب الإمام الحسين، وأما عبيد الله بن الحرّ الجعفي،
فلم يقطع شكه بيقين، وفضَّل الحياة على الموت.
· ختاماً لا أقل من أن يُعامل قائلُ هذا الشعر الذي
يتفطر لوعة وندماً وأسىً من صاحبه على عدم نصرته للإمام الحسين، ثم خروجه على ولاة
بني أمية بقصد الطلب لثأره معاملة التوابين الذين ندموا على تركهم نصرة الحسين، فخرجوا
للطلب بثأره بقيادة سليمان بن صُرَد الخزاعي، فقد آذى هذا الرجل الأمويين وولاتهم
في العراق والشام بعد ذلك إلى أنْ وافته منيته، ولعله من كل ما قدمته سوف نجد
العذر للنجاشي عندما ذكره ضمن رجال الشيعة.
الحواشي والهوامش
[1] جاء في كتاب التاريخ
الكبير للبخاري (ج5: 377 ط. دائرة المعارف
العثمانية، حيدر آباد):
"عبيد الله بن حر، الجعفي؛ حديثه
في الكوفيين عن علي - رضي الله عنه – قوله؛ قاله إسماعيل بن
جعفر؛ عن ابن خصيفة؛ عن سليمان بن يسار، وروى شريك عن عمرو بن خبيب، عن عبيد
الله بن حر.
[2] النجاشي: فهرست اسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي)؛ (قم: مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة 1416هـ)؛ الصفحة: ١٠.
[3] أحمد بن علي بن
ثابت = الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد؛ تحقيق مصطفى عبد القادر عطا (بيروت: دار
الكتب العلمية 1997م)؛ ج12: 106.
[4] محمد بن جرير
الطبري: تاريخ الأمم والملوك؛ تحقيق دي غويه (ليدن: بريل 1893م)؛ ج8: 765.
[5] علي بن محمد بن
محمد الشيباني = ابن الأثير: الكامل في التاريخ؛ (بيروت: دار صادر 1965م)؛ ج4:
287.
[6] سعيد بن منصور
بن شعبة الخراساني: سنن سعيد بن منصور؛ تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي (الهند: الدار
السلفية؛ 1982م)؛ ج1:
179.
[7] أحمد بن يحيى بن
جابر البلاذري: أنساب الأشراف؛ تحقيق سهيل زكار ورياض زركلي (بيروت: دار الفكر
1996م)؛ ج7: 29.
[8] عبد القادر بن عمر البغدادي:
خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب؛ تحقيق: محمد نبيل طريفي وإميل بديع اليعقوب
(بيروت: دار الكتب العلمية؛ 1998م)؛ ج٢: ١٣8 – 141.
[9] ذكره أبو المنذر هشام
الكلبي باسم: "بدر" في نسب جعفي من كتابه (نسب معد واليمن الكبير)،
ويبدو أنّ أحد الاسمين تحرَّف عن الآخر.
[10] عبد القادر بن عمر البغدادي:
خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب؛ تحقيق: محمد نبيل طريفي وإميل بديع اليعقوب
(بيروت: دار الكتب العلمية؛ 1998م)؛ ج٢: ١٣8 – 141.
[11] أحمد بن أعثم
الكوفي: الفتوح؛ تحقيق: علي شيري (بيروت: دار الأضواء؛ 1411هـ)؛ ج5: 73.
[12] أحمد بن داؤود
الدينوري: الأخبار الطوال؛ تحقيق عبد المنعم عامر (القاهرة: دار إحياء الكتب
العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه 1960م)؛ الصفحة: 262.
[13] أحمد بن يحيى بن
جابر البلاذري: أنساب الأشراف؛ تحقيق نخبة من المحققين (بيروت: مؤسسة الأعلمي
1974م)؛ ج3: 188.
[14] محمد بن جرير
الطبري: تاريخ الأمم والملوك؛ تحقيق دي غويه (ليدن: بريل 1893م)؛ ج8: 766
[15] محمد بن جرير
الطبري: تاريخ الأمم والملوك؛ تحقيق دي غويه (ليدن: بريل 1893م)؛ ج8: 766 - 767.
[16] أحمد بن داؤود
الدينوري: الأخبار الطوال؛ تحقيق عبد المنعم عامر (القاهرة: دار إحياء الكتب
العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه 1960م)؛ الصفحة: 272.
[17] أحمد بن داؤود
الدينوري: الأخبار الطوال؛ تحقيق عبد المنعم عامر (القاهرة: دار إحياء الكتب
العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه 1960م)؛ الصفحة: 304.
[18] أحمد بن يحيى بن
جابر البلاذري: أنساب الأشراف؛ تحقيق نخبة من المحققين (بيروت: مؤسسة الأعلمي
1974م)؛ ج5: 256.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق