الجمعة، 25 سبتمبر 2020

فوائد منتقاة من كتب تاريخية ذات علاقة بشرق الجزيرة العربية

فوائد منتقاة من كتاب (الفصول الفخرية لابن عنبة) المتوفى عام 828هـ


بقلم / عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي


ثانياً: آل جروان من عبد القيس
ملوك بلدة القارة في الأحــــساء

وقال في الصفحتين: 60 – 61؛ في الكلام عن عبد القيس:
"وبقيّة عبد القیس الآن یسکنون فی الاحْسَاءِ، ومنهم آلُ جَرْوَاْن، وهم مُلُوْكُ بلدِ القَاْرَة".
في هذا النصّ النادر لابن عنبة نراه وقد حدّد مُلك آل جروان المذكورين فيه في بلد القارة التي كُتبت في المطبوع: "الفارة"، وهو من التصحيف القبيح؛ إذ لا وجود لبلد في الأحساء اسمه الفارة، والمعروف المشهور في زمنه – وهو الثلث الأول من القرن التاسع الهجري – هو بلدة القارة، ففي مادة [ ق و ر] من القاموس المحيط للفيروآبادي المعاصر لابن عنبة:
"والقارة: .. قرية بالشَّام، وبالبحرين". 

وتعقَّبه الزبيدي في كتابه "تاج العروس من جواهر القاموس"، فنقل ما قاله الفيروزآبادي، ولكنْ بتعبير أدق، فقال في ذات المادة [ق و ر]:

"والقارة: قرية بالبحرين"
 فهي القارة إذاً، وتحديد ابن عنبة لملك آل جروان على أنه في بلد القارة، وذلك لأنّ واحة الأحساء في زمنه كانت تنقسم إلى قسمين:
1. قُرَى الشَّرْق: والشرق مصطلح يراد به القسم الواقع شرقي الهُفوف، ويضم القرى المحيطة بكتلة جبل الشبعان - الذي تحوّل اسمه إلى جبل القارة نسبةً إلى هذه البلدة ذاتها، وذلك لشهرتها في الأزمنة الأخيرة – وهذه القرى المحيطة بهذا الجبل هي أربع قرى كلُّ قرية في ركن من أركان هذا الجبل، وهي: القارة الواقعة في ركنه الشمالي الغربيّ، والتويثير الواقعة في ركنه الشمالي الشرقي، والتَّيْميّة الواقعة في ركنه الجنوبي الشرقي، والدالوة الواقعة في ركنه الجنوبي الغربي، ومن قرى الشرق أيضاً في الأحساء: العُمران وقُراه، وهي كثيرة جداً، وكذلك من قرى الشرق غير المحيطة بالجبل: الجُبيل، والتي من المعتقد أنها هي الجُبيلة: قصبة قُرى بني عامر بن الحارث من عبد القيس في الأحساء بحسب ياقوت الحموي في رسمها، والطُّرَيْبيل التي ذكرها ابنُ الفقيه الهمذاني كإحدى قُرى بني محارب بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس، وغير ذلك من قُرى شرق الهُفوف عاصمة الأحساء بما يتبعها من بساتين وعُيون وأنهار ومواضع، وكان شعراء بني جبر يُسمّون قرى وأهالي هذه القرى بـ(الشروقات)، و(أهل الشروقات)، ومن ذلك قول الكليف للشيخ مقرن بن قضيب الجبري:[1]
إجعل (قديمي) في محل (مقدّم)

واهل الشروقات استعن باموالها

قال له هذا لأنّ أهل قرى الشرق كانوا أغنى وأسرى سكان الأحساء.
2. قُرى الشمال: والشمال: مصطلحٌ يراد به القسم الواقع شمال الهُفوف، والذي تكون بلدة المُبرَّز حاضرته، ويضمُّ القرى الواقعة شمال هذه البلدة، وشرقها كالمطيرفي والشقيق والجرن والقرين وجليجلة والبطالية والشعبة والحليلة والمقدام والكلابية وغيرها بما يتبع ذلك من بساتين وعيون وأنهار ومواضع.
وعليه فإنني أستطيع أن أقول إنّ قول ابن عنبة عن آل جروان أنهم ملوك بلد القارة يعني أنهم كانوا أهل السلطة على قُرى وسكان قرى شرق الأحساء، فمن هم آل جروان هؤلاء.
ينبغي الانتباه هنا إلى أنّه كان يوجد في إقليم البحرين في فترة حياة ابن عنبة أسرتان حاكمتان حملتا هذا الاسم؛ إحداهما من عبد القيس، وهي التي أراد ابنُ عنبة، وسأتحدث عنها بعد قليل، والثانية من عُقيل، وهي أسرة تنتسب إلى رجُل اسمه جروان المالكي القرشي، وهو رجلٌ قام في العام 705 للهجرة بانتزاع مُلك البحرين من آل رميثة القُدَيْمِيّيْن العُقَيْليّين كما نصَّ على ذلك المقريزي في كتابه (درر العُقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة)، وابن حجر في كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، وكلاهما نصّ على ذلك في ترجمة حفيده إبراهيم بن ناصر بن جروان، وإذاً فاسم هذه الأسرة لا يرقى إلى أعلى من بداية القرن الثامن الهجري، وهو منسوب إلى هذا الجدّ جروان المالكي القريشي العُقيلي، وهو نسبٌ سوف أناقشه في بحثٍ آخر بعنوان (نظرة في نسب بني جبر) سوف أطرحه في هذه المدوّنة قريباً.
وأما الأسرة الثانية التي عُرفت في المنطقة بـ(آل جروان)، فهي أسرة أقدم من هذه الأسرة الجروانية العُقيلية، وهي أسرة من عبد القيس، ثم من بني مالك[2] بن عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس، وجدهم الأعلى الذي ينتسبون إليه هو أبو جروان عزيز بن سعيد بن عتّاب؛ أحد بني أبيرق، وهو عمرو بن عبد الله بن مالك بن عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس كما ذكر شارح الديوان المقرَّبي في طُرّة القصيدة الميمية التي مدح بها أحد زعماء هذه الأسرة، وهو علي بن أحمد بن عزيز بن إبراهيم بن أبي جروان عزيز، والتي مطلعها:
رويداً بعض نوحك يا حَمَامُ 
أجدك لا تُنيْم ولا تَنَام

والتي يقول في أحد أبياتها:

وَإنْ يُذْكَرْ أبُوْ جَرْوَاْنَ غَضَّتْ
لَهُ الأبْصَاْرُ، وَانْقَطَعَ الكَلاْمُ
وعلَّق الشارح على هذا البيت بقوله:

".. وأبو جروان جده الأكبر".[3]

ولهذا هم يُعرفون بـ(آل أبي جروان)، و(آل جروان)، وكلا الاسمين وردَ في شعر ابن المقرَّب وشرح شعره لشارحٍ مجهول معاصر للشاعر؛ قد يكون هو أو أنه رجلٌ آخر أملى ابن المقرَّب شرح شعره عليه، ففي قصيدته النونية التي قالها يعاتب فيها أحد أفراد هذه الأسرة، وهو إبراهيم بن عبد الله بن عزيز بن إبراهيم بن أبي جروان عزيز بن سعيد بن عتاب الأبيرقي المالكي العامري العبدي؛ قال ابن المقرَّب موجهاً الخطاب له لأنه كان هو المسيطر على حكام الأحساء من بني عمومته العُيونيين المريين العامريين العبديين:

أتراك ترضى أن يحدث جاهلٌ      أو عالم من نازحٍ أو داني
فيقول كان خراب دار ربيعةٍ        بعد العمار بنو أبي جروان
ولكنه قال في قصيدة أخرى يخاطب فيها ممدوحه الأمير محمد بن أبي الحسين العُيوني:
وجد واجتهد في آل جروان إنهم    سيوفٌ تفرِّيْ حاسديك نصالُها
وفي موضع ثالث قال ابن المقرَّب:
وآل أبي جروان لما رمتهمُ          بداءٍ على غير الكرام عُضال
وعلَّق شارح ديوانه على هذا البيت بقوله:
"وبني جروان؛ أحد بني أبيرق، وهو بيت بني أبيرق بالبحرين، وفي ولده بقية بني مالك بن عامر بالبحرين".[4]
وبذكر بني أبيرق العبديين البحرانيين، فإنه يوجد موضع نخل يُسمّى الأبَيْرِقيّات؛ يقع بالقرب من الركن الجنوبي الغربي لجبل الشبعان (القارة) قرب القرية التاريخية عَسَلَّج؛ قد يكون منسوباً إلى بني أبيرق هؤلاء؛ خصوصاً وأنه يقع بالقرب من بلدة القارة التي كان الجروانيون الأبيرقيون ملوكها كما قال ابن عنبة في نصّه هذا.
وعمُّ أبيرق المالكي العبدي هذا هو هدّاج بن مالك بن عامر بن الحارث الذي قتله زهير بن جناب الكلبي، وقال في ذلك شعراً يقول فيه:
فجَّعتُ عبدَ القيس أمسِ بجدها      وسَقَيْتُ هَدَاْجَاً بكأس الأقزل
ولا زال يوجد بين قريتي القارة والجبيل؛ شماليّ الأبيرقيات المذكور قبل قليل موضع نخل آخر يُسمى الهَدَّاجي؛ أغلب الظن أنه منسوبٌ لهَدَّاج هذا لأنّ هذه الأماكن فيما بين بلدات القارة والجبيل والطريبيل والحليلة كان فيها قرى كثيرة لبني عامر بن الحارث كالجبيلة (الجبيل) حاضرة قراهم، والمريداء، والسَّوَّاريّ كما أوضحت في كتابي (هجر وقصباتها الثلاث)، والقارة كما في هذا النصّ لابن عنبة، وينبغي أن لا نغفل عن قول شارح الديوان المقرَّبي المارّ بنا قبل قليل إنّ بني جروان هم "بقية بني مالك بن عامر بن الحارث في البحرين"، فهو قريب من قول ابن عنبة في نصّه عنهم إنهم بقية عبد القيس في الأحساء، وهذه من الأمور التي تدعوا للاعتبار، فبنو عامر بن الحارث كانت القبيلة العبقسية التي لها أكثر عدد من القرى في الأحساء والبحرين، وعندما عدّ ابنُ الفقيه لبني عمهم بني محارب بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس اثنتين وعشرين قرية في البحرين قال:
"فهذه قُرى بني محارب بن عمرو بن وديعة، وقرى بني عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة أضعاف هذه".[5]
وقد ذكرت من قراهم اثنتين وعشرين قرية في كتابي (هجر وقصباتها الثلاث)، وحددتُ مواضع الكثير منها، ومنها جواثى، والجبلة، والجبيلة، والمريداء، والسوّاري، والرّدم، والعُيون، وهذه كلها في الأحساء، ويمكن الآن أن نضيف إليها بلدة القارة من الأحساء لنصّ ابن عنبة على أنّ بني جروان من بني مالك بن عامر بن الحارث كانوا ملوكها في زمنه.
كما قد يكون منسوباً إلى بني جروان النهرُ الأحسائيُّ المعروف بالجروانيّ؛ المتخلج عن نهر سُليسل الشهير بالأحساء، فعندما يصل هذا النهر الكبير إلى موضع يُسمّى الثغامة يتشعب منه ثمانية أنهار منها نهرُ الجرواني هذا الذي يمضي فيسقي بساتين بلدة الجبيل التاريخية الواقعة للغرب من جبل القارة (الشبعان) بميلٍ واحد، ثمّ يسقي بساتين بلدة القارة.
ومن المرجّح أيضاً أنّ آل جروان ملوك بلدة القارة هؤلاء هم عشيرة رجل الدين الأحسائي الشيعي المعروف بالشيخ جمال الدين حسن المطوع الجرواني؛ من أعلام أواسط القرن التاسع الهجري؛ أي في الفترة التي أحكم فيها الجبريون السيطرة على واحتي الأحساء والقطيف، وأزالوا حكم بني جروان الآخرين المتمين إلى عُقيل كما سنرى.
والدليل على أنّ المراد بـ(آل جروان) في نصّ ابن عنبة جروان عبد القيس وليس جروان عُقيل المعاصرين لهم هو أنّ جروان عُقيل كانوا ملوك القطيف والأحساء بجميع ما يلحق بهما من بوادي ومناطق، وأما آل جروان هؤلاء الذين ذكرهم ابن عنبة، فقد حدد ملكهم بـ(بلد القارة) فقط، ولو أنه أراد جروان عُقيل لما حصر ملكهم في بلاد القارة فقط لو كانوا لا زالوا موجودين على سدّة الحكم وقت تدوين ابن عنبة لهذه المعلومة؛ بل كان وصفهم بملوك البحرين، أو بملوك الأحساء والقطيف على أقل تقدير، وأما إذا كان تدوينه لهذه المعلومة كان بعد أن قضى الجبريون على دولتهم في العام 820هـ كما يرى بعض الباحثين، فعندها لن يكون لهم ذكر ولا ملك، ولن يقبل الجبريون أن يدَعُوْهُم يحكمون في دولتهم وهم قد قتلوا سادتهم ورؤسائهم، ولهذا أرى أنّ جروان عبد القيس ربما كان لهم دورٌ - أيضاً - في مناصرة الجبريين لإزاحة جروان عُقيل عن حكم الأحساء والقطيف كما كان لهم دورٌ في إزاحة حكم العُيونيين عنهما قبل ذلك، ولعلّ هذا ما جعل الجبريين يكافئونهم بإعطائهم إدارة ملك بلدهم القارة وما حولها من قُرى الشرق، وهو أمرٌ كان لا بدّ للجبريين من فعله، فبحكم كونهم من البدو المحبين للترحال والسكن في البر كان لا بدّ لهم من وزراء أو زعماء محليين يكْفُوْنَهم عِبءَ إدارة الشئون الداخلية للواحتين ليتفرغوا هم لإدارة أمور دولتهم الخارجية بخوضهم تلك الحروب المستمرة لتأديب قبائل البادية المحدقة بها والطامعة فيها.
فنحن نعرف من بعض المصادر التاريخية التي وصلتنا أنه قبل سيطرة الجبريين على إقليم البحرين كان المسيطر عليه بنو جروان القُريشيون – نسبة إلى قُريش بن بدران بن المقلد بن المسيّب[6] – وقبلهم كانت السيطرة للعماير من بني قُديمة العُقيليين الذين كان لهم يدٌ طولى في حكم الأحساء، وقبلهم كان الحكم للدولة العُيونية، وفي كلِّ هذه الدول كان لجروان عبد القيس حضورٌ فيها، وجاهٌ ومكنة، فهم الذين حفظوا الأحساء في زمن حكم بني عمومتهم العُيونيين من هجوم قاده محمد وعلي ابنا ماجد بن محمد بن أبي المنصور علي بن عبد الله العُيوني بمساعدة آل مقدّم العُقيليين النجديين الذين كانوا بقيادة زعيمٍ لهم اسمه أبو الجراح بن أبي السَّواد المقدّمي؛ عام 600 للهجرة، فقام الجروانيون العبديون بصدّهم، وحفظ ملك البلد للأمير محمد بن أبي الحسين العُيوني الذي كان قد خرج للبادية للنزهة كما هي عادة أمراء الدولة العُيونية وقت الربيع، وترك أمر إدارة الدولة لآل جروان العبديين، وكان هذا الأمير أحبّ أمراء الدولة العُيونية لابن المقرَّب، ولذلك سارع إلى مدحه بقصيدة بعد أنْ عاد من نزهته البريّة، وبعد تمكّن بني عمه آل جروان من تثبيت حكمه، فذكرهم ابن المقرَّب في هذه القصيدة، وقال مخاطبا الأمير محمد؛ يوصيه بهم:[7]
وَجُدْ وَاجْتَهِدْ فِيْ آلِ جَرْوَاْنَ إنَّهُمْ
سُيُوْفٌ تُفَرِّيْ حَاْسِدِيْكَ نِصَاْلُهَاْ
هُمُ بَذَلُوْا فِيْمَاْ يَسُرُّكَ أنْفُسَاً
كِرَاْمَاً، وَنَاْرُ الحَرْبِ يَعْلُوْ اشْتِعَاْلُهَاْ
وَهُمْ حَطَّمُوْا سُمْرَ العَوَاْلِيْ، وَفَلَّلُوْا
مَضَاْربَ أسْيَاْفٍ حَدِيْثَاً صِقَاْلُهَاْ
غَدَاْةَ أبُوْ الجَرَّاْحِ يُرْدِيْ كَأنَّهُ
نَعَاْمَةَ قَفْرٍ تَقْتَفِيْهَاْ رئَاْلُهَاْ
وَذَاْدُوْا الأعَاْدِيْ عَنْ حِمَاْكَ وَفَلَّقُوْا
جَمَاْجِمَ لَمْ يَبْرَحْ قَدِيْمَاً ضَلاْلُهَاْ
كما نجد ابن المقرَّب يشير في قصيدة أخرى مدح بها زعيمهم الأشهر إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن أبي جروان عزيز، ويشير إلى حادثة حصلت لآل جروان في الأحساء أودت برئيسهم عبد الله والد هذا الزعيم، ولكنهم لم يتضعضعوا كثيراً لذلك، وسرعان ما عادوا إلى مراكزهم القوية في الدولة العُيونية، فلنستمع لابن المقرَّب وهو يقول عنهم:
وَآلُ أبيْ (جَرْوَاْنَ ) لَمَّاْ رَمَتْهُمُ
بدَاْءٍ عَلَىْ غَيْرِ الكِرَاْمِ عُضَاْلِ
أرَاْدَتْ عِدَاْهُمْ نَيْلَ مَاْ كَاْنَ مِنْ عُلاً
لَهُمْ - يَاْ لَقَوْمِيْ - مِنْ عَمَىً وَضَلاْلِ
وَأطْمَعَهُمْ قَتْلُ الرَّئِيْسِ وَمَاْ جَرَىْ
مِنِ اخْرَاْجِ آلٍ، وَاسْتِبَاْحَةِ مَاْلِ
فَمَاْ رَبَحُوْا غَيْرَ العَنَاْءِ وَإنْ غَدَتْ
عُقُوْلُهُمُ تُدْعَىْ عُقُوْلَ سِخَاْلِ
فَلَمْ يَمْضِ غَيْرَ الحَوْلِ حَتَّىْ رَأيْتَهُمْ
عَلَىْ رَغْمِ شَاْنِيْهِمْ بأنْعَمِ بَاْلِ
يَلُوْذُ مُعَاْدِيْهِمْ بهِمْ وَهْوَ خَاْضِعٌ
كَمَاْ تَخْضَعُ الجُرْبُ العِجَاْفُ لِطَاْلِيْ
فَلَوْ أنَّهُمْ شَاْءُوْا لأضْحَتْ مَنَاْزلٌ
تَمُرُّ بهَاْ الأيَّاْمُ وَهْيَ خَوَاْلِيْ
وَلَكِنَّ حُسْنَ العَفْوِ مِنْهُمْ سَجِيَّةٌ
إذَاْ مَاْ عَفَاْ وَاْلٍ وَعَاْقَبَ وَاْلِيْ
ثم يقول في مدح زعيمهم الجديد؛ إبراهيم بن عبد الله:
وَمِنْ حَقِّ بَيْتٍ مِنْهُ يُعْزَىْ ابْنُ عَبْدَلٍ
دَوَاْمُ عُلُوٍّ فِيْ أتَمِّ كَمَاْلِ
وَمَنْ يَلْقَ إبْرَاْهِيْمَ يَلْقَ ابْنَ تَاْرحٍ
أخَاْ العَزْمِ فِيْ نُسْكٍ وَعُظْمِ جَلاْلِ
وَيَلْقَ ابْنَ يَعْقُوْبَ المُكَرَّمَ يُوْسُفَاً
نَبيَّ الهُدَىْ فِيْ عِفَّةٍ وَجَمَاْلِ
فَتَىً حَلَّ مِنْ عُلْيَاْ ( لُكَيْزٍ )وَ ( عَاْمِرٍ )
بأَعْلَىْ مَحَلٍّ مِنْ ذُرَىً وَقِلاْلِ
ومع ذلك، فقد كان لبني جروان هؤلاء دورٌ كبيرٌ في النهاية الدرامية التي انتهت بها دولة العُيونيين في الأحساء، وقد أشار إليه ابن المقرَّب أيضاً وشارحُ شعره تلميحاً حيناً وتصريحاً حيناً آخر كما في مقدمة قصيدته النونية التي مطلعها:
كم بالنهوض إلى العلا تعداني
فقد جاء في الطرّة الطويلة لهذه القصيدة؛ في وصف ما آلت إليه الأمور في الأحساء في آخر حكم العُيونيين فيها:
"وقال بمدينة القطيف بعد خروجه من الأحساء يريد العراق من البحر، وكان سبب قولها أنه حين خرج الأمير علي بن ماجد  من الأحساء بعثت  قومٌ من أهل البلد إلى مقدم  بن عزيز  بن الحسن بن شكر بن علي بن عبد الله بن علي، فأدخلوه إلى البلد فملكها".
ثم يقول بعد ذلك:
"وكانت أموال السّلطنة قد خرجت من أيدي أهلها وصارت لعدوّها وخصومها الذين هم البدو، فما بقي السلطان يقدر على مالٍ يجنّد به جنوداً تمنعه وتحفظ بلاده وتدفع عنه بأس رعيته، فاجترأت الرعية وصار كلٌ له هوىً يميل إليه وكلٌ يريد أن يكون الملك على يديه، وصار بعضهم يريد هلاك بعض ليكون الأمر كله إليه، فعند ذلك حَمَلت القوم الذين كانوا أدخلوا مقدم بن عزيز  وملكوه عليهم، وقالوا لا بد أن تقبض على قوم عينوهم واحداً واحداً من بني مرّة  من آل إبراهيم العيونيين أقارب أهل بيت السلطان، وكان إذ ذاك مقدم بن عَزيز  جاهلاً بالبلد وبأهلها، وغير مكترث بالنسب لأنه نشأ في البادية ولم ينشأ في البلد، ولم يكن يعرف أهلها، فأجابهم إلى ذلك، فقبض على عدة رجال وألقاهم في المطمورة، ونهب ما في خزائنهم".
فهنا نرى ابن المقرَّب أو شارح شعره يلمّح ولا يصرّح بذكر هؤلاء القوم، ولكنّه سرعان ما أفصح في نهاية هذه الطرّة ذاتها عن المراد بهؤلاء القوم الذين ملكّوا مقدم بن عزيز على الأحساء، وخططوا لسجن وسلب أموال قومٍ من بني مُرّة بن عامر بن الحارث البطن العبدي الذي ينحدر منه العُيونيون، فقال في آخرها عن ابن المقرَّب وإنشائه لهذه القصيدة:
"وبعث بها إلى أبي علي إبراهيم بن عبد الله بن عزيز  بن إبراهيم بن أبي جروان، وكان يومئذٍ رأس من بالأحساء، وكان هو من الذين أدخل  مقدم بن عزيز ومَلَّكَه.
وجعل  الخطاب فيها إلى عبد القيس لأنهم جُلُّ أهل البحرين وبهم تعرف، وإبراهيم هذا هو أحدهم".[8]
فهذا تصريح واضح في أنّ سبب نهاية الدولة العُيونية – بحسب وجهة نظر ابنها ابن المقرَّب – هم آل جروان، وبالتحديد زعيمهم: إبراهيم بن عزيز، فهو: "كان يومئذٍ رأس من بالأحساء"، وكان هو الذي أدخل مقدم بن عزيز الأمير الضعيف إلى الأحساء وملّكه فيها ليفعل كل ما سبق وذكره الشارح تلميحاً.
وأما الواقع الصحيح في سقوط الدولة العُيونية في الأحساء،[9] فهو أنّ هذه الدولة كانت قد شاخت، وبلغت الحدّ الأقصى من الضعف، وصار حكامها يقتل بعضهم بعضاً بحيث لم يتورع الولد عن قتل أبيه، والأخ عن قتل أخيه؛ فضلاً عن قتل كثير منهم لبني عمومتهم الآخرين، فآلُ جروان الذين دافعوا عنها في أيام عزها في عهد الأمير محمد بن أبي الحسين لم يجدوا فائدة ولا جدوى في الإبقاء عليها في عهد مقدم بن عزيز الذي كان قد جعل الأحساء وبساتينها ومقدراتها نهبةً للبدو من عُقيل، ورأوا أهلها وقد هجروها وتشتتوا في سائر البلدان المجاورة لها، فمن حقّ آل جروان العبديين أن يحافظوا على ما لديهم من مال وجاه في موطنهم حتى وإن تمالؤا على أسقاط بني عمومتهم العُيونيين من على كرسي الحكم في الأحساء، فكان لهم ذلك؛ بل إنني أجزم أنّ آل جروان قد أصبحوا هم حكام الأحساء بعد انتهاء حكم مقدم بن عزيز الذي نصّبوه، ثم أسقطوه، فبطون البدو من عُقيل التي ملّكها العُيونيون والجروانيون أكثر وأفضل بساتين الأحساء والقطيف لم تكن هي الأخرى لتفضّل السكن في وسط القرى التي تحيط بها بساتين النخيل ومجاري المياه؛ بل كانوا يفضلون السكن في الواحات البرية على أطراف الواحتين لأنهم كانوا يستوخمون السكن داخل بساتين الواحتين، وقد نصَّ على ذلك شارح ديوان ابن المقرّب عندما قال في شرح قوله عن الأمير محمد بن أبي الحسين العُيوني، وإلحاقه الهزيمة ببطون عُقيل يوم صفواء من القطيف:
وَحَوَىْ ظَعَاْئِنَهُمْ، وَأحْرَزَ مَاْلَهُمْ
غَصْبَاً وَأنْزَلَهُمْ بشَرِّ مَــــــــكَاْنِ
فقال الشارح:
"وبعد هذه الهزيمة نزلوا بأهليهم البلد وحَصَرَهُم فيها، وذلك قوله: وأنزلهم بشرِّ مكان؛ يعني البلد لأن البدوي ما شيءٌ أشدّ عليه من نزول البلد".[10]
وهذا هو واقع الأمر، فقد كانت تلك البطون العُقيلية منذ إسقاطها الدولة العُيونية في القطيف والأحساء قد أوكلت أمر إدارة الشئون الداخلية للواحتين إلى أناسٍ ذوي كفاءة من أهلهما، وهو أمرٌ سيُشاهد لاحقاً في القرن التاسع الهجري عندما سيستولي الجبريون على الحكم في القطيف والأحساء، وفي القرن الحادي عشر أيضاً عندما يستولي عليهما بنو خالد، وكلُّ هؤلاء أوكلوا أمر شئون الواحتين وقراها الداخلية لأناسٍ من أهلهما، وأما هم فكانوا يفضلون العيش في برّ البحرين الخصب وأطراف هاتين الواحتين الكبريين؛ في واحاتهما البريّة للرفاه ولحماية حدود دولهم الخارجية، وبالتالي فإنّ بطون عُقيل من العماير القُديميين الذين أطاحوا بالدولة العُيونية في الأحساء لن يجدوا أكفأ من آل جروان العبديين الذين كانوا أصلاً السبب في وصولهم إلى ملكها، وكانوا أكفأ الأحسائيين في إدارة شئون الأحساء الداخلية حتى في أيام الدولة العُيونية كما رأينا في عهد أحد أقوى حُكامها، وهو الأمير محمد بن ابي الحسين، ولهذا فإنهم جعلوا هذه الشئون وإدارة الأحساء داخلياً لهم، وهو ما ساهم في ظهور هذه الأسرة كأسرة مالكة في القرن السابع والقرن الثامن، وحتى القرن التاسع الهجري كما نجد في صريح قول ابن عنبة الذي نصّ على أنهم كانوا ملوك بلد القارة من الأحساء، فهذا الكلام يُشعر أنّهم كانوا معنيين بإدارة شئون هذا البلد الذي كان حينها قصبة قرى الجبل، وما حوله من قرى، وهي أهم وأغنى منطقة في الأحساء، ومركز الخيرات فيها، وهو ما يدلُّ عليه شعر الكليف الجبري المتقدم، وهو قوله:[11]

وانْ كانْ تبغيْ مُلْك هَجْرٍ صـادقْ

فاضْربْ بحَدِّ السَّيْفْ رُوْس ارْجَاْلْهَا

وَأوْدِعْ (قَدِيْمَةْ) فيْ مَحَلّ (مْقَدَّمْ)

وَاهْلِ الشُّرُوْقَاْتِ اسْتَعِنْ بَامْــــوَاْلْهَا

فهو يطلب منه الاستعانة بأموال (أهل الشروقات)، وهو مصطلح كان يُطلق في الأحساء على القرى الشرقية منها، وعلى أهل هذه القرى، وفي تاريخ ابن غنام - وهو من مؤرخي الدولة السعودية الأولى في الأحساء – يكثر من ذكر أهل المشرق وبلدان المشرق من الأحساء؛ حيث كانوا من أشد معارضي الدولة السعودية الأولى في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر، وقد ظلَّ هذا المصطلح يُطلقه سكان الهُفوف والمبرّز وقرى الشمال من الأحساء على أهل القرى الشرقية فيها حتى وقت قريب.

وأما بلد القارة التي ذكر ابن عنبة في النصّ أنّ آل جروان بقية عبد القيس هم ملوكها، فهي بلدة معروفة في الأحساء منذ قديم الزمان، وأرى أنها تقوم على آثار مدينة المشقر القريبة من الركن الشمالي الغربي من جبل الشبعان الذي يُعرف الآن باسم (جبل القارة) نسبة إلى هذه البلدة الآثرية، وفيما بين هذه القرية وبين هذا الجبل كانت تقوم مدينة هجر العظمى التي أحرقها أبو سعيد الجنابي عام 286 للهجرة، ولأجل هذا فقد عُرفت القارة في الأحساء بأنها كانت حاضرة العلم فيها، ويُنسب إليها كثير من علماء الشيعة الأحسائيين كآل السبعي والشيخ أحمد بن فهد الأحسائي المضري – نسبة إلى حيٍّ من القارة اسمه مُضر – والشَّيْخ ناصِر بن إبراهيم البُوَيْهِيُّ الأحْسَائيّ المتوفى عام 852هـ، وكان يدرس في قرية عيناثا من قرى جبل عامل من لبنان، فقال أبياتاً يتذكر فيها بلاده ويذكر المشقر حصن هجر الشهير الذي يقع في بلدته القارة، ومنها قوله:

أشَاْقَكَ رَبْعٌ بـ (المُشَقَّرِ) عَاْطِلُ

فَظَلْتَ تَهَاْدَاْكَ الهُمُوْمُ النَّوَاْزلُ

فَأصْبَحْتَ تَسْتَمْرِيْ مِنَ العَيْنِ مَاْئَهَاْ

وَهَيْهَاْتِ قَدْ عَزَّتْ عَلَيْكَ الوَسَاْئِلُ

تَذَكَّرْتَ مَنْ تَهْوَىْ فَأبْكَاْكَ ذِكْرُهُ

وَأنْتَ بعَيْنَاْثاْ عَلَىْ الكُرْهِ نَاْزلُ

ولا زالت القارة قائمة عامرة حتى وقتنا هذا، وقد أنجبت للوطن الكثير من العلماء والشعراء والأدباء والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال.


بلدة القارة عاصمة حكم الجروانيين من عبد القيس في القرن التاسع الهجري كما يتضح من نصّ ابن عنبة، ويلاحظ هذا التلّ الشامخ في أول الصورة، والذي يُسمى الآن (جبل راس القارة)؛ هذا التلّ هو ما كان يُعرف في التاريخ بأسم (المشقر) حصن هجر الأعظم، ولا زالت الكهوف التي حفرها البشر فيه منذ ما قبل الإسلام قائمة فيه، وكذلك البئر التي حُفرت في أعلاه لتأخذ الماء من عين هجر في أسفله. 



الحواشي والهوامش


[1] أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري: أنساب الأسر الحاكمة في الأحساء (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر؛ 1983م)؛ ق1: 254.

[2] لعلّ ما جعل بعض الباحثين - كابن عقيل الظاهري في كتابه (أنساب الأسر الحاكمة في الأحساء) - يخلطون بين هاتين الأسرتين، ويجعلونهما أسرةً واحدة هو أنّ كلّ عائلة منهما تنتسب إلى جدٍّ أعلى لها اسمه مالك، وأنّ إحداهما تنتسب إلى قريش والأخرى إلى عبد القيس، واحتمال هؤلاء الباحثين لتحرّف (قريش) عن (قيس)، و(عبد القيس)، ولكنْ فاتهم أنّ نسبة الأسرة الأولى هي إلى جدٍّ لها اسمه جروان كان موجوداً في القرن الثامن الهجري بينما الأسرة الثانية تنتسب إلى جدها أبي جروان الذي كان في نهاية القرن الخامس أو بداية القرن السادس الهجري.

[3] شارح مجهول من القرن السابع الهجري: شرح ديوان ابن المقرَّب؛ تحقيق عبد الخالق الجنبي (بيروت: دار المحجة البيضاء 2012م)؛ ج4: 2462.

[4] شارح مجهول من القرن السابع الهجري: شرح ديوان ابن المقرَّب؛ تحقيق عبد الخالق الجنبي (بيروت: دار المحجة البيضاء 2012م)؛ ج3: 1588 – 1590.

[5] أحمد بن محمد الهمذاني = ابن الفقيه: مختصر كتاب البلدان (ليدن: مطبعة بريل 1302م)؛ الصفحة: 31.

[6] سبق وقلتُ إنني بصدد وضع بحثٍ في هذه المدونة (بعنوان: نظرة في نسب بني جبر)، وفيه سيكون حديثٌ عن هذا النسب.

[7] شارح مجهول من القرن السابع الهجري: شرح ديوان ابن المقرَّب؛ تحقيق عبد الخالق الجنبي (بيروت: دار المحجة البيضاء 2012م)؛ ج3: 1521 - 1525.

[8] شارح مجهول من القرن السابع الهجري: شرح ديوان ابن المقرَّب؛ تحقيق عبد الخالق الجنبي (بيروت: دار المحجة البيضاء 2012م)؛ ج5: 2784 – 2787.

[9] كان سقوط الدولة العُيونية في الأحساء قد سبق سقوطها في القطيف وجزيرة أوال، وخروجها من أيديهم بعقد ونيّف من الزمن.

[10] شارح مجهول من القرن السابع الهجري: شرح ديوان ابن المقرَّب؛ تحقيق عبد الخالق الجنبي (بيروت: دار المحجة البيضاء 2012م)؛ ج5: 2730.

[11] أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري: أنساب الأسر الحاكمة في الأحساء (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر؛ 1983م)؛ ق1: 254.

فوائد منتقاة من كتب تاريخية تتعلق بشرق الجزيرة العربية


فوائد من كتاب (الفصول الفخرية في أصول البريّة) لابن عنبة


بقلم/ عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي


يُعتبر جمال الدين أحمد بن علي بن الحسين الحسني العلوي المشهور بـ(ابن عنبة)، - والمولود في الحلّة من العراق عام 748 للهجرة، والمتوفى في كرمان الإيرانية عام 828 للهجرة أحد أشهر المؤرخين والنسابة في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، وقد اشتهر بكتابه (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب)، والذي أتقن تأليفه، وتحقيقه، وحشاه بكثير من الأخبار التاريخية عن الطالبيين المذكورين فيه، وإن كان له مؤلفان آخران في أنساب الطالبيين وبني هاشم عامة، وهما:

·  التحفة الجمالية في أنساب الطالبية، ولعله هو ذاته (نسب آل أبي طالب) كما قال آغا بزرك تحت هذا العنوان من موسوعته (الذريعة إلى تصانيف الشيعة)، وقال إنه باللغة الفارسية.

·  بحر الأنساب في نسب بني هاشم.

إلا أنّ هذا النسابة لم يكتفِ بالكتابة في أنساب قومه الطالبيين وبني هاشم فقط؛ بل إنه صنَّف كتاباً في أنساب قبائل العرب؛ بل وبعض أنساب سلاطين الإسلام، وكذلك أنساب الأنبياء والأمم غير المسلمة، وإنْ كان أكثره في نسب قبائل العرب من قحطان ومعدّ، وقد سمّى كتابه هذا:

·  الفصول الفخرية في أصول البرية، وقد طُبع في طهران عام 1984م، بتحقيق السيد جلال الدين المحدث الأرموي.

وقد ألّفَ ابنُ عنبة كتابه هذا باللغة الفارسية، وذلك بعد هجرته إلى بلاد فارس، ولعلّ هذا هو ما جعله مجهولاً لدى الكُتبيين والباحثين العرب.

والجميل في كتابه هذا أنه بعد أن يذكر أجداد القبائل العربية المعروفة، وذكر أبنائهم المعروفين كأجداد لبطون هذه القبائل يقوم بذكر البطون والأفخاذ والأسر والأعلام المنتمين إليهم في عصره أو قبله بقليل، وهو أمرٌ له أهميته الخاصة في معرفة أنساب كثير من الأسر التي كان لها شأن في عصره، أو تلك التي حكمت في بلاد فارس والعراق والشام ومصر والجزيرة العربية.

وقد تفضَّل عليَّ كعادته الصديق العزيز الدكتور محمد رحمتي من جمهورية إيران الإسلامية، فأرسل لي نسخة حاسوبية لطبعة عام 1984 للميلاد من هذا الكتاب الذي طبعته شركة انتشارات علمي وفرهنكي بطهران بتحقيق: السيد جلال الدين المحدث الأرموي، وهو باللغة الفارسية التي من حسن حظنا أنها كانت ولا زالت تُكتب بالحروف العربية بعكس اللغة التركية، وأيضاً فإنّ بعض الألفاظ هي عربية المبنى والمعنى، ولهذا لم أجد صعوبة في قراءة هذا الكتاب، وأما ما صعب علي فهمه من ألفاظه، فقد أعانني الصديق الدكتور رحمتي، وبعض الإخوة ممن يتقنون اللغة الفارسية في ترجمته لي، وهو قليلٌ عموماً.

وبعد تصفحي للكتاب وجدتُ فيه معلومات بكر عن بعض القبائل والبطون التي كان لها حضورٌ على مسرح أحداث إقليم البحرين القديم، ولاسيما عن أعلام وأسر وأفخاذ وبطون منها كانت في فترة زمن المؤلف ابن عنبة، فأحببت أن أدونها هنا، وأذكر ما لدي حولها لإتمام الفائدة.

 

أولاً: بنو خالد النجديون الحجازيــون 

من قبيلة طيّ، ثمّ من بني نبهان منها


قال في الصفحة 57: عن بني نبهان بن عمرو بن الغوث بن طي:

"ومنهم: بنو خالد الذين يسكنون في نجد، ويقولون إنهم من نسل خالد بن الوليد، وهو غير صحيح؛ فهم من بني خالد بن أصمع بن عبيد بن ربيعة بن نصر بن سعد بن نبهان".

وتكمن أهمية هذا النصّ في أنه النصّ الوحيد حتى الآن الذي يرفع نسب بني خالد نجد إلى بني نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيّ.

وخالد بن أصمع النبهاني هذا رجلٌ مذكور في كتب التاريخ والأدب العربيين، وهو أخو سُدُوْس بن أصمع والد البطن الطائي المعروف بهذا الاسم؛ قال هشام بن محمد الكلبي:

"خالدُ بنُ أصْمَع، وسُدُوْسُ بن أصْمَع، ولكليهما وُلْدٌ، والعَدَدُ في خالد".[1]

وخالد هو الذي نزل عليه امرؤ القيس بن حُجر الكندي بعد مقتل أبيه حُجر مستجيراً به، فعدا على إبل خالد بعض بني طيّ قبيلته، فأخذوا إبله، فطلب من امرئ القيس أن يعطيه إبله ليلحق بها السارقين، فأعطاه إياها، وعندما أدركهم أخذوا إبل امرئ القيس منه أيضاً، فقال امرؤ القيس فيه أبياته المعروفة:

دع عنكَ نَهْباً صِيْحَ فيْ حُجُراتِهِ

ولكنْ حَديثاً ما حَدِيثُ الرَّوَاحِــلِ

كأنَّ دثاراً حَلَّقَتْ بلَبُوْنِـــــــــــــهِ

عُقابُ تنوفىْ لا عُقابُ القواعــل

وأعجبنيْ مشيُ الخُزُقَّةِ خَـــــالِدٍ

كَمَشْيِ الأتَانِ حُلّئِتْ فيْ المَناهِلِ

وقول الكلبي: إنّ العَدَد في خالد يعني أنه كان له نسلٌ كثيرٌ في زمن الكلبي يُعرفون بـ(بني خالد)، والكلبي توفي عام 204 للهجرة، فلا ريب أنهم في زمن ابن عنبة صاحب هذا النصّ عنهم، والمتوفى عام 828 للهجرة سيكونون ملء السهل والجبل.
وقد ذكر الكلبي في (نسب معد واليمن) لخالد بن أصمع ولداً واحداً فقط أسماه أنساً، ولكنه ذكر لأنس هذا ثلاثة أبناء هم:

1.      مَنِيْعُ بن أنَس بن خالد، وذكر من أعلام نسله: هديلة بن حصين بن منيع، وحرار بن عبيد بن منيع، وأنيف بن مَنيع؛ الذي ارتد ولم يرتد من طيء غيره وكان مع بني أسد؛ ذكره ابن الأثير في اللباب نقلاً عن هشام الكلبي.

2.      نُبَيْط بن أنَس بن خالد، وذكر من أعلام نسله: جَوَّاب بن نبيط، ومعاذ بن نبيط.

3.      سُوَيْد بن أنَس بن خالد، وذكر من أعلام نسله: عَتَّاب بن فُسير بن سُويد الشاعر.

وقول ابن عنبة إنّ بني خالد هؤلاء يسكنون في نجد هو الصحيح، وهم أنفسهم المذكورون باسم: خالد الحجاز عند الحمداني في كتابه عن الأنساب، وابن فضل الله العمري الناقل عنه في (مسالك الأبصار)، والسبب في ذلك هو أنّ الحمداني وابن فضل الله مِصريان يعملان عند حكام مصر، وكان أكثر ما يهمهما ويهمُّ سلاطينهم من الجزيرة العربية هو الحجاز، فنسبا خالد وغيرهم من قبائل نجد إلى الحجاز لاختلاط منازل هذه القبائل بين الحجاز ونجد؛ بل إنّ هؤلاء الكُتّاب المصريين كانوا يعدون نجداً من الحجاز، ففي (مسالك الأبصار)، وعند حديثه عن قبيلة طيّ؛ قال ابن فضل الله:

"وأما طيّءٌ، فإنها نزلت بعد الخروج من اليمن – بسبب سيل العَرِم – بنجدِ الحجاز؛ في جبلي أجأ وسلمى".[2]

كما قال عن قبيلتي شمّر ولام الطائيّتين:

"شَمَّر ولام: من عرب الحجاز، وديارهم جبلا طيّ؛ أجأ وسلمى".[3]

وجبلا طيّ؛ أجأ وسلمى ليسا من الحجاز بل هما من نجد؛ بل إنّ ابن فضل الله عندما ذكر ديار بني خالد؛ قال عنها:

"وخالد، ودارها التنومة،[4] وضئيدة،[5] وأبو الزيدان، والقويع،[6] وضارج،[7] والكوارة،[8] والنَّبوان؛[9] إلى ساقة العرفة إلى الرّسوس؛[10] إلى عنيزة؛[11] إلى وضاخ؛[12] إلى جبلة؛[13] إلى السرّ؛[14] إلى العودة؛[15] إلى العشيرية؛ إلى الأنجل".

وهذه المواضع كلها في سرّة نجد في القصيم وما حوله، وحول حجر اليمامة، فهذه نصوص واضحة وصريحة على ما قلته من أنّ خالد الحجاز عند الحمداني وابن فضل الله، وخالد نجد عند ابن عنبة هما قبيلة واحدة، وهم الذين ادعوا انتسابهم إلى خالد بن الوليد، وهو أمرٌ رفضه الحمداني وابن فضل الله، ورفضه ابن عنبة كما رأينا في هذا النصّ الذي كان واثقاً فيه جداً برفع نسبهم إلى خالد بن أصمع من نبهان طيّ.

والحقُّ الذي تثبته المصادر التاريخية المعتبرة هو أنّ قبيلة بني خالد هي عبارة عن حلفٍ مثله مثل الأحلاف التي تكوّنت قبله؛ كـ(حِلفِ بني ربيعة) عرب الشام، و(حِلف الفضول) في الشام ونجد، و(حِلف الدَّواسر) في االحوطة والأفلاج والوادي، وأقدم قبائل الحلف الخالدي في المنطقة هي قبيلة العَماير، فهذه القبيلة كان لها وجود في المنطقة منذ القرن السادس الهجري، وظلّت بطونها متواجدة في المنطقة حتى مقدم آل حميد مع المهاشير إليها، والذين عانى العماير في أول الأمر من غاراتهم عليهم، ثم وجدوا أنّ أفضل شيءٍ لضمان أمنهم وأمانهم هو أن يحالفوهم، فكان ذلك.


[1] امرؤ القيس بن حجر الكندي: ديوان امرئ القيس وملحقاته بشرح أبي سعيد السكري؛ تحقيق: د. أنور عليان أبو سويلم ومحمد علي الشوابكة (العين: مركز زايد للتراث والتاريخ؛ 2000م)؛ مج1: 568.

[2] أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العُمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (أبو ظبي: المجمع الثقافي 1423هـ)؛ ج4: 258.

[3] أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العُمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (أبو ظبي: المجمع الثقافي 1423هـ)؛ ج4: 356.

[4] من قرى القصيم؛ تقع شمالي بريدة بميلة للشرق بستة وثلاثين ميلاً.

[5] وتُسمّى الآن ضيدة بالتخفف من الهمزة، وتقع شمالي بريدة القصيم بخمسة وخمسين ميلاً.

[6] من قرى القصيم؛ يقع جنوبي غربي بريدة بميلين اثنين فقط.

[7] ويُعرف باسم ضاري على سمت من ينطق الجيم ياءً، وهو قرية مندثرة الآن في القصيم؛ غربي بريدة بثمانية أميال.

[8] يرى الأستاذ العبودي في (معجم القصيم) أنها القوارة الآن، والقوارة تقع غربي شمالي بريدة باثنين وأربعين ميلاً.

[9] لا زال معروفاً باسمه في وادي التسرير (الرشا الآن)؛ غربيّ الدوادمي بثماني وعشرين ميلاً.

[10] الرسوس: هو الرسّ والرّسيْس وموضع ثالث بقربهما كما قال الأستاذ العُبودي في رسم الرسّ من (معجم القصيم).

[11] البلدة المعروفة في القصيم؛ جنوبي بريدة بسبعة عشر ميلاً.

[12] من قرى نجد؛ يقع جنوبي بريدة بخمسة وسبعين ميلاً، وغربي شقراء باثنين وثمانين ميلاً.

[13] وهي هضبة حمراء من أشهر هضاب نجد؛ تقع بين حجر والقصيم، وكانت موضع حروب كثيرة بين قبائل العرب قديماً وحديثاً، ومن ذلك اليوم الشهير بـ(يوم جبلة) بين بني عامر بن صعصعة وبين تميم وعبس وغطفان وغيرهم.

[14] وهو من أشهر مواضع سرّة نجد، وهو وادٍ يقع شرقي الدوادمي.

[15] يبدو أنها ما يُعرف الآن بـ(شعيب العَودة)؛ الواقع بين حجر والقصيم؛ جنوبي شرقي المجمة بثمانية وعشرين ميلاً.