الاثنين، 15 يونيو 2020

النصوص التاريخية والآثار تثبت صحة ما توصلت إليه

مدينة هجر وموضعها عند جبل الشبعان

المعـروف الآن بـ(جـــبل الـقــــــــــارة)؟

لفت نظري تغريدةٌ في موقع (تويتر) للدكتور/ فهد الحسين قال فيها ما هذا نصّه:

والذي لفت نظري هو أنّ الدكتور الفاضل انتقدَ تحديدي لموضع مدينة هجر الشهيرة في أدبيات العرب عند الزاوية الشمالية الغربية لجبل القارة – الذي كان يُعرف قديماً باسم جبل الشبعان – مدّعياً إنّ هذا الموضع الذي حددته لمدينة هجر لا تنطبق عليه المعالم الجغرافية التاريخية، ولا تدعمه المواد الأثرية، وهو محضُ نفيٍ لم يذكر عليه أي دليل يؤكده.

وأنا في ردي هذا لا أنكر حق الدكتور الحسين في أن يرى ما يراه بخصوص بحوثي، وله كلُّ الحق في رفض النتيجة التي توصلتُ إليها فيها، ولكنْ من حقّي أنْ أطالبه - ما دام قد نشر رأيه هذا لقرّاءه - بإثبات رأيه الذي قاله عن بحوثي بدليل واضح، وأما النفي للنفي فقط، فهو لا يتفق مع المنهج العلمي (الأكاديمي) الذي كنتُ أودُّ من الدكتور أنْ يتوخاه للصفة العلمية التي يحملها، ولي معه هنا وقفة مع قوله إنّ المعالم الجغرافية والتاريخية والمواد الآثارية لا تنطبق على موضع هجر الذي حددته في كتابي (هجر وقصباتها الثلاث)، وليسمح لي الدكتور الفاضل أنْ أرى - كما رأى -–أنّ كلامه عن بحثي لا ينطبق عليه معيار البحث العلمي في نفي النتائج التي يتوصّل إليها الباحثون، وهو نفيٌ منّي يقابل نفي الدكتور لنتيجة بحثي؛ إلا أنني لن أكتفي بمجرّد النفي، وإنما سأذكر دليلي على ما قلته من المصادر التاريخية والجغرافية المعتبرة، وأما المواد الآثارية، فالدكتور يعلم - كما أعلم - بأنه لم تُجرَ دراسات آثارية علمية ممنهجة للموضع الذي حددتُ قيام مدينة هجر التاريخية عليه، وهو ما كان يُعرف سابقاً بدكة الكوارج والمغارات المقابلة لها في جبل القارة (الشبعان)، والدراسات الآثارية التي تمّت هي دراسات سطحية غير عميقة؛ قام بها بعض الآثاريين الغربيين الذين زاروا هذا الموقع، ومنهم فيدال الذي نصَّ على أنّ القسم المقابل لكهف الفَخّار من هذه الدكة يحتوي على فخّار تسلسلي لمدد زمنية طويلة، وأنّ دراسته سوف تكافئنا بالحصول على تسلسل زمني متصل لفَخَّار واحة الأحساء.[1]

قال فيدال هذا الكلام عام 1955م أي قبل 65 عاماً تقريباً، ومع ذلك لم يقم أحدٌ من المعنيين بالآثار بدراسة هذه الآثار دراسة علمية صحيحة، وبالتالي فإنه لا يتبقى لدينا إلا اللجوء إلى النصوص التاريخية والجغرافية للكشف عن موضع مدينة هجر، وفي هذه النصوص الخير؛ بل كل الخير والبركة لمن وعاها وكانت لديه القدرة على فهمها فهماً صحيحاً، وللعلم فليس كلُّ كشفٍ لمدينة مندثرة يُراد له تنقيب آثاري، فالنصوص التاريخية كانت وما زالت خير معين للآثاريين في اكتشافاتهم، وهي التي تسير بهم أولى خطواتهم في طريقهم لاكتشاف الآثار المندثرة؛ علماً بأنّ أثر الإنسان في المواضع التي حددتها لتكون حاضنة لمدينة هجر وقصباتها الثلاث المشقر والصفا والشبعان هو أثرٌ واضح لمن زارها ورآها كما سنرى في بعض الصور التي سأدرجها في آخر ردي هذا.

ويمكن بعد الاستقراء المقارن للنصوص القديمة أن نجيب على السؤال الملحّ عن موضع مدينة هجر التاريخية الشهيرة بجوابٍ صحيح، ولنبدأ الآن بالإجابة مُدَعَّمَةً بنصوص تاريخية متفاوتة المكان والزمان متفقة على المضمون الدلالي:

أولاً: نصُّ صاحب كتاب المناسك أو الطريق المتوفى عام 306هـ:

يقول هذا النصّ كما في هذه القصاصة من مخطوطته الوحيدة في العالم:

وليلاحظ الدكتور الفاضل أنّ مؤلف هذا الكتاب القديم، والذي يُنسب الآن لوكيع القاضي المتوفى عام 306 للهجرة قال عن أحد منبري هجر إنه في مملكة ابن عياش، وذكر أنّ منزله بـ"حمرا هجر"، وأرى أنّ حمرا هجر المقصود بها جبل الشبعان (القارة)، وهو اسمٌ يطلقه سكان المنطقة على بعض القُوْرِ أو الجبال الصغيرة الشقراء اللون، ومن ذلك تسميتهم لجبل جودة بـ(حمرا جودة)، ومع ذلك، فلن أستعجل النتيجة، وسأنتقل إلى النَّصٍّ الثاني.

ثانياً: نصُّ المسعودي المتوفى عام 346هـ

أي أنه توفي بعد وكيع القاضي صاحب النصّ الأول بأربعين سنة فقط، ويقول نصّه هذا في ذكر مدن البحرين التي حاصرها أبو سعيد الجنابي مؤسس دولة القرامطة في البحرين عام 286 للهجرة:

ويلاحظ في هذا النصّ أنّ المسعودي الذي كان معاصراً لوكيع القاضي ومن ذات بلده العراق يتفق معه في أنّ مُلك هجر كان لآل عياش من عبد القيس لأنّ المحاربي في نسب عياش عند المسعودي هي نسبة لبني محارب بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس، وهو ما سيؤكّده شارح ديوان ابن المقرَّب العُيوني في النصّ الثالث الذي سأعرضه الآن.

ثالثاً: نصُّ شارح ديوان ابن المقرَّب المتوفى في القرن السابع الهجري

وقد يكون هذا الشارح هو نفسه شارح ديوانه، وذلك عندما قال في شرح قوله:

إني لأخشى أن تلاقوا مثلما

لاقى بنو العيَّاش والعُريان

كرهوا الجلاء عن الديار فأهلكوا

بالسيف عن عرضٍ وبالنيرانِ

المصدر: نسخة ديوان ابن المقرَّب المحفوظة بمكتبة برلين الوطنية، ونصُّ المكتوب فيها هو:

"يعين بالعياش؛ عياش بن سعيد رئيس بني محارب؛ كان منزله بالجبل المعروف بالشبعان من جبال هجر، وهو في وسطها؛ تحفُّ به أنهارُها وبساتينها".

وها هو ابن المقرَّب وشارح شعره يؤكدان أنّ عياش بن سعيد - والد آل عيّاش المحاربيين العبديين المذكورين في نصّي وكيع القاضي والمسعودي - كان منزله بـ"الجبل المعروف بالشبعان"؛ بل وزادنا هذا الشارح بصيرة بقوله عن هذا الجبل إنه: "من جبال هجر"، وأنه "في وسطها" و"تحفُّ به أنهارها وبساتينها".

وهذه الجملة الأخيرة تذكرنا بما قاله الهمداني عن قرى بني محارب العبديين أنفسهم الذين ينتمي إليهم آل عياش في هجر، وذلك عندما قال:

"مدينة البحرين العُظمى: هجر، وهي سوق بني محارب من عبد القيس، ومنازُلها ما دار بها من قرى".[2]

فهذا نصٌّ صريحٌ في أنّ قُرى بني محارب كانت تحيط بمدينة هجر، ومن نعم الله علينا أنّ قُرى بني محارب العبديين هذه تكفل ابن الفقيه الهمذاني بحفظ كثير منها، وكثير من هذا الكثير لا زال معروفاً حتى وقتنا الحاضر، وهي تحيط بجبل الشبعان (القارة) كما قال الهمداني في (صفة جزيرة العرب)، وأما نصُّ ابن الفقيه، فهو قوله كما في طبعة ليدن من كتابه البلدان:

"ومن قرى البحرين: الحوس، والكثيب الأكبر، والكثيب الأصغر، وأرض نوح، وذو النار، والمالحة، والزرائب، والبَدِيّ، والخِرصان، والسَّهْلة، والحوجر، والوجير، والطّربال، والمنسلخ، والمرزى، والمطلع، والشطّ، والقرحاء، والرُّميلة، والبحرة، والرجراجة، والعَرَجة، فهذه قرى بني محارب بن عمرو بن وديعة"[3]

وبعض هذه القرى أصابه التحريف مثل: الحوجر التي ذكر محقق الكتاب أنه وجد اسمها في نسخ أخرى: الحوضى، والحرصلة، ولهذا رجَّحتُ أنها: الحوطة لتشابه الرسوم الثلاثة معها، وكذلك المنسلخ التي رجحتُ أنها عسلّج القرية الهجرية التاريخية الواقعة جنوبي شرقي الجبيل، والمرزى التي أرى أنها تحريف المردى أو المرداء مخففة من الهمز، وهي مَرْداءُ هجر المذكور في الشعر والتاريخ العربيين، وكذلك المطلع التي أرى أنها محرّفة عن المصلى، وهو أيضاً موضع في هجر، والشطّ التي أرى أنها تحريف واسط، وهي كلها قُرى لا زالت معروفة ضمن قُرى الشرق من واحة الأحساء، وعلى ذلك فإننا لو قمنا برسم خارطة لهذه القرى التي ذكرها ابنُ الفقيه لبني محارب رهط العياش وولده، وموضعها من واحة الأحساء، فسنجد أنها كلها تحيط بجبل الشبعان (القارة) بالفعل، وهذه هي الخارطة:

وكما نرى فإنّ هذه الخارطة المقتبسة عن كتابي (هجر وقصباتها الثلاث) يتضحُ فيها قرى بني محارب العبديين أهل هجر كما وردت أسماؤها في كتاب البلدان لابن الفقيه، وهي المكتوبة باللون الأحمر، وهذه القرى كما نرى تحيط بجبل الشبعان الذي قال شارح الديوان المقرَّبي إنّ العيّاش بن سعيد المحاربي زعيم هجر وصاحب مملكتها كان يسكن فيه يعني في كهوفه الباردة جداً في الصيف، والدافئة جداً في الشتاء كما يعرف الجميع، فهو أحرى بأنْ يكون مسكن الملوك، ولا ننسى أيضاً ما قاله شارح الديوان المقرّبي من أنّ هذا الجبل في وسط هجر تحف به أنهارها وبساتينها؛ علماً أنّ الضمير في قوله: "وهو في وسط هجر" رجّحتُ أن يعود إلى جبل الشبعان، وإن كان من الجائز أنه قد يعود على العياش بن سعيد؛ أي أنّ منزله كان في وسط هجر، وكانت بساتين هجر وأنهارها تحف بمنزله وسط مدينته هجر.

إنّ ما قدمته حتى الآن من نصوص، والمقارنة بينها يثبت صحة ما توصلتُ إليه من أنّ مدينة هجر العظيمة كانت عند هذا الجبل الأشم؛ جبل الشبعان؛ إلا أنّ هذا الجبل طويل عريض (2000م × 1300م)، وبالتالي فأين تقع هجر منه؟.

إنّ الجواب على هذا السؤال تكفلت لنا به بضعة نصوص تاريخية، وأدبية أيضاً، وأبدأ بنصّ أبي عبيدة الذي نقله عنه أكثر من مؤرخ وجغرافي، ومنهم ابن الفقيه في كتابه البلدان، وياقوت الحموي في معجمه البلداني، ويقول هذا النصُّ والسياق لابن الفقيه:

"وقصبة هجر: الصّفا، والمشقّر، والشبعان، والمسجد الجامع في المشقر، وبين الصفا والمشقر نهرٌ يجري يُقال له العين".[4]

وجاء في مادة [ قصب ] من (لسان العرب) قوله:

"وقصبة البلد: مدينته، وقصبة السواد: مدينتها، وقصبة البلاد: مدينتها، والقصبة القرية، وقصبة القرية: وسطها"

وكل هذه التعريفات تعني أنّ الصفا والمشقر والشبعان في نصّ أبي عبيدة هذا تقع وسط هجر، وأن المشقر والصفا قريبين جداً من بعضهما لا يفصل بينهما إلا نهر العين، وهي عين محلم كما في نصوص أخرى، ونحنُ نعرف حتى الآن أنّ الشبعان هو هذا الجبل الشهير الذي يُعرف الآن بجبل القارة باتفاق الباحثين في هذا الشأن، وعلى الرغم من أنه لا يوجد اليوم بقرب جبل الشبعان هذا موضع يُسمّى بـ(المشقر)؛ إلا أنّ كثيراً من النصوص التاريخية والجغرافية المتعلقة بالمشقر ترشدنا بكلّ يقين إلى موضعه، وقد ذكرتُ هذه النصوص بالتفصيل في الطبعة الثانية من كتابي (هجر وقصباتها الثلاث)، ولن أعيد ذكرها هنا، ولكنني سأذكر نصّاً خطيراً كان هو المفتاح الذي فتح لي الباب للوصول إلى موضع المشقر، وهذا النصّ وصلنا عن ابن الأعرابي، وهو قوله:

"المُشَقَّرُ مَدِيْنَةٌ عَظِيْمَةٌ قَدِيْمَةٌ، فيْ وَسَطَهَا قَلْعَةٌ عَلَىْ قَاْرَةٍ تُسَمَّىْ عَطَاْلَةْ، وَفيْ أعْلاْهَاْ بئْرٌ تَثْقُبُ القَاْرَةَ حَتَّىْ تَنْتَهِيْ إلىْ الأَرْضِ وَتَذهَبُ فيْ الأَرْضْ، وَمَاْءُ هَجر يَتَحَلَّبُ إلىْ هَذِهِ البئْرِ فيْ زِيَاْدَتِهَا".[5]

وإذاً، فإنّ المشقر هو حصنٌ على قارة جبلية، وليست أيَّ قارة، فهذه القارة يوجدُ في أعلاها بئرٌ تثقبها حتى تنتهي إلى الأرض، فهذه إذاً علامةٌ واضحةٌ فارقة لا يمحوها الزمن، وهي ما جعلتني أهتدي إلى هذه القارة التي كان يقوم فيها وعليها حصن المشقر، وهي القارة أو التلّ الذي يُطلق عليه الآن اسم: (جبل راس القارة)، أو (جبل الراس)؛ الواقع على بُعد 250 متراً فقط من جبل الشبعان في الجهة الجنوبية من بلدة القارة القديمة، فهاتان إذاً قصبتان من قصبات هجر الثلاث قد تمكنا من تحديدهما بواسطة هذه النصوص التاريخية الصحيحة، وبقي الصَّفا، وكنتُ قد قلتُ في كتابي (هجر وقصباتها الثلاث) إنه إذا كان المشقر والشبعان هما جبلان أو كتلتان صخريتان، فلا بد أن يكون الصّفا القصبة الثالثة كذلك، وينبغي أن لا يبعد كثيراً عن هاتين القصبتين ولاسيما المشقر الذي يفصل بينه وبينه نهر محلّم العظيم، وهو ما جعلني أهتدي إلى هذه القصبة بعد زيارات ميدانية حول هاتين القصبتين اهتديت فيها إلى تلّ ثالث يقوم بالقرب منهما وهو التلّ الذي يُسمى بـ(تلّ أبو الحصيص) الآن الواقع شمالي بلدة التويثير، ولم يكن من الصدفة أبداً أنّ هذا التلّ يشبه في شكله شكل تل المشقر المقابل له، وفيه كما في ذلك التل وكما في جبل الشبعان كهوف يُرى بوضوح أثر الإنسان في حفرها أو تهذيبها، ومن ذلك دهن سقوفها بالقار، وهو ما ورد في نصٍّ لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي عن المشقر ذكرته في كتابي، وقد منّ الله عليّ - بعد خروج الطعبة الثانية من كتابي - بوثيقة أحسائية كُتبت في زمن أحد علماء الأحساء، ثم مدينة العمران منها، وهو الشيخ عمران السليم المتوفى عام 1360 للهجرة، وعليها اسمه، وهذه الوثيقة ذكر فيها (قوع الصَّفا)، ويُفهم مما ورد في هذه الوثيقة أنّ هذا القوع هو ما يُعرف الآن بـ(قوع أبو حصيص)، وهو يقع عند تل أبو الحصيص، وهذه صورة لهذه الوثيقة:


وأعتقد ألآن أنني لستُ في حاجة إلى أنْ أذكر أكثر من هذه النصوص التاريخية لأثبت صحة ما توصلتُ إليه في تحديدي لموضع مدينة هجر، فهي تقع فيما بين هذه القصبات، أو أنّ هذه القصبات تحيط بها، وهو ما جعلني أرشحُ دكة الكوارج الملاصقة للركن الشمالي الغربي من جبل الشبعان (القارة) لكي تكون هي الموضع الذي كانت تقوم عليه هذه المدينة الشامخة، فهي الموضع الوحيد من الجبل الذي يقابله حصنا المشقر (راس القارة)، والصَّفا (تل أبو حصيص)، وقد ورد في نصّ قديم قوله:

"المُشَقَّر: حِصْنٌ بالبَحْرَيْنِ عَظِيْمٌ لِعَبْدِ القَيْسِ؛ يَلِيْ حِصْنَاً لَهُمُ آخَرُ يُقَاْلُ لَهُ الصَّفا قِبَلَ مَدِيْنَةِ هَجر، وَالمَسْجِدُ الجَاْمِعُ بالمُشَقَّرِ، وَبَيْنَ الصَّفا وَالمُشَقَّرِ نَهْرٌ يَجْرِيْ يُقَاْلُ لَهُ العَين".[6]

وفي رواية هشام بن محمد الكلبي ليوم المشقر أو الصَّفقة التي ذكرها الطبري عنه في تاريخه، ورد فيها قوله عن بني تميم:

"فأدخلهم المشقر، وهو حصنٌ حياله حصنٌ يقال له الصفا، وبينهما نهرٌ يقال له محلم".

فكلمة حياله لا تدل على المقاربة فحسب، بل والمشابهة أيضاً في التصميم والشكل، وهو ما يبدو أكثر وضوحاً في كلام ابن الفقيه الذي ذكر كلاماً مشابهاً لهذا الكلام، وهو قوله عن المشقر:

"هو حصنٌ بين نجران[7] والبحرين يقال إنه من بناء طسم، وهو على تلٍّ عالٍ، ويقابله حصنُ بني سدوس"

وحصن بني سدوس هو نفسه حصنُ الصّفا، وقول ابن الفقيه إن المشقر على تلٍّ عالٍ يقابله حصن بني سدوس هو نفسه قول هشام بن الكلبي عن المشقر أنه حصن حياله حصنٌ يقال له الصّفا غير أن نص ابن الفقيه أكثر دلالة باستخدامه لفظة "يقابله" من لفظة هشام "حياله" فالمقابلة تقتضي كون المتقابلين على نفس المستوى من حيث العلوّ والتوازي.

وإلى هنا أكتفي بما أراه شرحاً وافياً يثبت صحة النتيجة التي توصلتُ إليها في كتابي (هجر وقصباتها الثلاث ونهرها محلم)، ومن أراد الاستزادة في التوضيح، فـ(هاؤم اقرؤا كتابيه):


 

صور:


قصبات هجر الثلاث: الشبعان المعروف الآن بجبل القارة، وهو الكتلة الصخرية الأضخم إلى اليسار 

والصفا المعروف الآن بتل أبو حصيص، وهو هذه الكتلة ذات الرؤوس التي في أول الصورة،

 والمشقر المعروف الآن براس القارة، وهو الكتلة الصخرية الصغيرة التي تقابل الصّفا.

تل أبو حَصِيْص الذي قلت في البحث إنه هو الذي كان يقوم فيه وعليه الصّفا؛ الحصن التوءم للمشقر، وتبدو في الصورة مقدمة هذا التل التي تشبه تل المشقر من حيث وجود ما يشبه الرؤوس في أعلاها، وبداخل هذا التل ذي الرؤوس يوجد كهفٌ كبير ليد الإنسان أثر على تهذيبه وتهيئته للجلوس فيه.

المشقر (راس القارة) كما يبدو جنوبي بيوت بلدة القارة، ويبدو في أعلى الصورة من اليسار جزء من كتلة جبل الشبعان (القارة)، وهما قصبتان من قصبات هجر الثلاث، ويلاحظ بين هاتين القصبتين دكة الكوارج، وقد بدأ العمران يعود إليها من جديد بعد أن ظلت فارغة منذ أحرق أبو سعيد الجنابي مدينة هجر التي كانت تقوم عليها كما ذكرت في بحثي، وفي هذا الشريط الفاصل من النخيل بين هذه الدكة وبين تل المشقر في بلدة القارة كان يمرُّ نهر عين هجر المتدفق من تل المشقر، ويسير بمحاذاة سور هجر على الدكة المذكورة، وبعد أن جف ماء عين هجر جرّ الأهالي شعبة نهر سليسل إلى قناة عين هجر.

صورة للمشقر من أعلى جبل الشبعان حيث يقف الرجل، وتبدو هذه الرؤوس الغريبة الشكل في أعلى تلّ المشقر، والتي أرى أنّه للبشر يدٌ في تهذيبها على الأقل؛ كما يلاحظ خلف الرجل بقعة ماءٍ أسفل جبل الشبعان؛ هذه البقعة هي جزء من قصبة نهر سليسل الذي كان نهر هجر القادم من عين هجر في تل المشقر يجري فيها، ولكنّ الأهالي بعد توقفه قاموا بجرّ شعبة نهر سليسل إلى هذه القصبة لتعو المياه إلى تدفقها فيها من جديد، ويلاحظ هذان البناءان فيما بين جبل الشبعان حيث يقف الرجل وبين تل المشقر؛ إنّ هذين البناءين يقومان على دكة الكوارج التي كانت مدينة هجر تقوم عليها في الزمن القديم، والنخل الجميل الذي يبدو في الصورة بين تل المشقر وجبل الشبعان، ويمتد إلى تل الصّفا (أبوحصيص) هو ما عُرف في التاريخ بـ(نخل ابن يامن) الذي ذكره الكثير من الشعراء، ومنهم امرؤ القيس الذي يقول:

أو المكرعات من نخيل ابن يامنٍ    دوين الصفا اللائي يلين المشقرا

صورة جوية رائعة لتل راس القارة أو المشقر، ويلاحظ بوضوح وجود فتحتين واحدة للشمال والأخرى للجنوب، فالفتحة الجنوبية هي فتحة من صنع البشر الذين حفروها منذ آلاف السنين ليصلوا إلى الماء، وهي عين هجر المشهورة في التاريخ، كما إنها هي البئر التي ذكرها ابن الأعرابي في نصّه المتقدم هنا، وأما الفتحة الشمالية ففتحوها ليخرجوا منها عندما يحاصرهم عدوهم بواسطة سلم مصنوع من الحبال ليذهبوا إلى فتحة العين ليستقوا الماء، وها هو أثر يد الإنسان يتجلى بكل وضوح في هذا التل الذي أثبتُّ أنه هو المشقر.

صورة أرضية لذات البئر في الصورة السابقة، وهي البئر التي ذكرها ابن الأعرابي في نصّه المتقدم عن المشقر، وقال إنها تثقب القارة حتى تصل إلى الأرض، وها هو هذا البئر الذي حفره البشر من دون شك ولا ريب في هذا التلّ الشامخ يؤكد صدق ابن الأعرابي - رحمه الله - في وصفه، وهي العلامة الفارقة التي عرفتُ بواسطتها هذا التلّ الذي كان يقوم فيه وعليه حصن المشقر حصن هجر الأشهر، وهي أيضاً البئر أو النبع الذي كان ماء عين هجر يتحلب إليه أي يسيل قاطعاً أكثر من عشرة أمتار بشكل عمودي إلى الأعلى، وهو ما يدلُّ على قوّة تدفق عين هجر الهائلة في الزمن القديم، ولهذا رجحتُ في كتابي (جره مدينة التجارة العالمية القديمة) أنّ هذا البئر هو البئر أو النبع الذي افتخرت إنانا السومرية المقابلة لعشتار الأكدية بأنها غسلت رأسها منه في ملحمتها الشهيرة.


هذه الصورة والصورة التي أعلاها لمغارتين في تل المشقر من الداخل، وهما دليل لا يقبل الشك على أثر يد الإنسان القديم في هذا الحصن العتيد، ويلاحظ وجود الأعمدة، والقار الذي طليت به أسقف المغارتين، وكان الغرض منه هو منع تهايل فتات الصخور من السقف على الساكنين فيه، ولاسيما أثناء تناولهم لوجباتهم وشرابهم.

المشقر الحصن الهجري الشامخ، ويقابله توءمه حصن الصّفا حيث يقف المصور؛ هذان الحصنان طالما شغلا الشعراء العرب قبل الإسلام وبعده، فذكروهما في أشعارهم، وذكروا النخل (نخل ابن يامن) الذي كان يقع فيما بينهما وبين جبل الشعبان الذي يحجبه تل الصفا، وسوف أتحدث قريباً عن هذين الحصنين والنخل الواقع بينهما في موضوع آخر بإذن الله.



الهوامش:

[1] F. S. Vidal: The Oasis of Al-Hasa, (Arabian American Oil Company 1955) P. 205.

[2] الحسن بن أحمد الهمداني: صفة جزيرة العرب؛ (ليدن: مطبعة بريل 1891م)؛ الصفحة 136.

[3] أحمد بن محمد الهمذاني = ابن الفقيه: مختصر كتاب البلدان (ليدن: مطبعة بريل 1302م)؛ الصفحتان: 30 - 31.

[4] أحمد بن محمد الهمذاني = ابن الفقيه: مختصر كتاب البلدان (ليدن: مطبعة بريل 1302م)؛ الصفحة: 30.

[5] البكري: معجم ما استعجم؛ ج4: 1233.

[6] ياقوت الحموي: معجم البلدان ج5: 134.

[7] نجران هذه هي نجران هجر في البحرين، وليست نجران الجنوب، وقد فصلت ذلك في الكتاب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق