أوجُهُ
الشَّبَه والتشابه التاريخية بين تلِّ دَاْرِ الحَجَرْ في صَنْعَاءْ
وَتَلِّ المُشَقَّرُ في الأحْسَاء هل يَشِيْ بوُحْدَةِ
المُنْشِئِيْن الأوَّلِيْنَ لَهُمَا؟
كتبه: عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي
لقد مرّ الآن سبعة عشر عاماً
ونيّف على خروج الطبعة الأولى لكتابي (هجر وقصباتها الثلاث؛ المشقر والصَّفا
والشبعان، ونهرها محلم) الذي صدرت طبعته الأولى عام 2004م، والذي حددتُ فيه
موضع حصن هجر الأشهر المعروف بـ(المشقر)، وأنه التلُّ الغريب الشكل الواقع في بلدة
القارة من الأحساء؛ قرب الركن الشمال الغربي لجبل الشبعان (القارة) بمئتين وخمسين
متراً فقط، والذي يُسمّى الآن بـ(راس القارة)، وهذه بعض الصور الجميلة له تم
التقاطها له من جهات مختلفة لهذا التلّ:
وكنت قد دَلَّلتُ على كون هذا التلّ هو التلّ الذي كان يقوم عليه
وفيه حصن المشقر الهجري العظيم بعدة نصوص وقرائن؛ أشهرها: نصُّ ابن الأعرابي الذي
يقول فيه:
"المُشَقَّرُ مَدِيْنَةٌ عَظِيْمَةٌ قَدِيْمَةٌ، فيْ وَسَطَهَا
قَلْعَةٌ عَلَىْ قَاْرَةٍ تُسَمَّىْ عَطَاْلَةْ، وَفيْ أعْلاْهَاْ بئْرٌ تَثْقُبُ
القَاْرَةَ حَتَّىْ تَنْتَهِيْ إلىْ الأَرْضِ وَتَذهَبُ فيْ الأَرْضْ".[1]
فواضح من هذا النصّ وجود علامة فارقة للقارة التي كان يقوم عليها
قلعة في وسط مدينة المشقر، وهي البئر التي تثقب القارة حتى تصل إلى الأرض، وهي صفة
لا تتوفر في الأحساء - وريثة هجر الآن - إلا في هذا التلّ الغريب الشكل، وهذه صورة
جوية واضحة لهذا التلّ يبين فيها بوضوح هذه البئر المشار إليها بالسهم الأحمر:
والأمر الآخر الذي ذكر في نصّ ابن الأعرابي بوضوح هو أنه كان على هذا
التلّ قلعة تقوم عليه، وهو ما جعل بعض الذين لا معرفة لهم بقراءة النصوص القديمة
فضلاً عن فهم معانيها يتهكمون حول ما كتبتُه عن وجود هذه القلعة، وبعضهم قال إنّ
مساحة هذه القارة أو التلّ لا تسمح بقيام قلعة عليها لصغر حجم هذا التلّ ووجود
صخرة ناشزة في أعلاه تجعل من المستحيل – بحسب زعمهم – إمكانية بناء قلعة عليه،
وقاموا بتوجيه كلامٍ قاسٍ وبعضه جارح لشخصي رغم أنني في هذا الأمر ناقلٌ لنصّ
قديم، ولست أنا صاحب هذا النص، وإنْ كنت قد تبنيته وصدقته، وفي ذات الوقت صدّقه
واعتقد به كثير من أهل العلم والحصافة، وهو ما جعل الصديق الدكتور مرعي الشخص يقصدُ
بعض الفنانين في المنطقة، موضحاً له الصورة حول وجود قلعة قديمة كانت على هذا
التلّ، ومن خلال شرحه الذي استعان فيه ببعض الصور الأرضية والفضائية التي نشرتُها
في الكتاب، وبعض صور الأقمار الصناعية للمنطقة التي يقع فيها هذا التلّ رسم هذا
الفنان صورة تخيلية له أقرب ما تكون للواقع الذي كان عليه هذا التلّ يوم كانت تقوم
عليه هذه القلعة، وكانت صورة معبرة عن الواقع القديم بالفعل، فما كان مني إلا أن
وضعتها في كتابي الآخر (جـِرَّه مدينة التجارة العالمية القديمة) لتقريب
صورة الحال إلى القارئ لما كان عليه حصن المشقر في عهد ازدهاره وعظمته، وهذه هي
الصورة المشار إليها:
وكان نشر هذه الصورة في كتابي المذكور فرصة أخرى ليبدي أولئك النفر
الذين ذكرتهم بعض تهكماتهم على ما نشرت، وأعادوا قولهم بأنّ تلّ راس القارة الذي
أثبتُّ أنه هو تل المشقر لا يكفي لبناء قلعة أو حصنٍ عليه، وهذا نابع من عدم
معرفتهم بعبقرية الإنسان القديم الذي سكن هذه المنطقة خاصة، والجزيرة العربية عامة،
والذي خلّف لنا من آثاره المدهشة ما هو أعظم من بناء قلعة أو حصن على تلٍّ صغير
الحجم رغم أنه ليس صغيراً جداً كما هو الحال في بعض حصون شمال الجزيرة وغربيّها
كحصون دومة والجوف وخيبر والمدينة، وكذلك حصون جنوب غرب الجزيرة واليمن خاصّة؛ مثل
حصن شقروف، وحصن الزكاتين وحصن الغويزي، وفيما يلي صور لبعض الحصون اليمنية وغيرها
مع بعض التعليق عليها ليعي أولئك النفر أنّ فكرة بناء القلاع والحصون على التلال
العالية هي فكرة قديمة وُجدتْ عند إنسان شبه الجزيرة العربية منذ مئات السنين:
قلعة
زعبل بالجوف شمال شبه الجزيرة العربية؛ تقوم على تلٍّ عالٍ؛ على أنقاض قلعة قديمة
تعود للقرن الأول قبل الميلاد.
قلعة
مارد في دومة الجندل، وهي أيضاً تقوم على هضبة صخرية مرتفعة، وتعود أساساتها
الأولى إلى ما قبل الإسلام.
أحد
حصون خيبر القائم فوق تلّ عالٍ أيضاً، ويعود تاريخه إلى ما قبل الإسلام، وهو دليلٌ
ناهض على وجود ثقافة الجبل الحصن عند إنسان الجزيرة العربية منذ قديم الزمان.
حصن
الغويزي في حضرموت الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العام 1716م، ويلاحظ أنّ المهندس
اليمني الذي بناه لم يكترث بصغر حجم التلة التي بناه عليها، ولا وعورتها وانجرافها
الشديد، ولم يقف عدم استواء أرضيتها عائقاً أمامه، فبنى الحصن عليها مستوياً
شاهقاً بفن هندسي كبير.
قصر
وقلعة الزكاتين شمالي غربي صنعاء؛ يقال إنّ عمرها قريب من ألف عام، وهو كما نرى
مبني على تل عالٍ ويلاحظ أن المهندس الذي بناه جعل أركانه وحيطانه عند حافة التلّ
تماماً ليزيد من صعوبة التسلق إليه.
الصورتان
أعلاه لقلعة حصن حَبّ جنوبي غربي صنعاء، والذي يُقال إنه يعود إلى عصر الملك الحميري
يريم ذي رعين؛ كما قال محمد بن علي الأكوع الحوالي في تحقيقه لكتاب (صفة جزيرة
العرب) للهمداني، وقال عنه أيضاً:
"هو
من أمنع معاقل اليمن وأصعبها مرتقى وأبعدها صيتا وأنضرها منظرا وأذكرها شهرة لكثرة
ما يدور حوله من أحداث التاريخ لخطورته وهو منتصب فردا في سرة جبل بعدان.. وكان
مقر القيل الخطير يريم ذي رعين الذي عثر على قبره هنالك عام الرمادة من الهجرة كما
أثبتنا ذلك في التاريخ".
وليلاحظ
القارئ كيف أنّ بروجه بُنيت على شفا جرف جبل بعدان العالي جداً ليصعب الوصول إلى
ساكنيها.
وأعود
الآن لهذه الصورة التخيلية التي نشرتها في كتابي (جرّه مدينة التجارة العالمية
القديمة)، والمستوحاة من الأوصاف التاريخية القديمة للمشقر، وأقول هل يصعب على
المهندس الهجري القديم – والذي قد يكون من نسل المهندسين اليمنيين الذين بنوا
الحصون السابقة - أن يبني مثلها على هذا التلّ الغريب الشكل الواقع بالقرب من
الجبل العظيم المعروف الآن بـ(جبل القارة)، وقديماً باسم (جبل الشبعان)؟
غير أنّ أكثر الحصون الجبلية اليمنية شبهاً وتشابهاً مع حصن تل
المشقر الهجري التاريخي هو حصن يمني يعرف باسم (دار الحجر) بصنعاء الذي سوف أتحدث
عنه بالتفصيل باعتبار وجود هذه الحالة الكبيرة من الشبه بينه وبين حصن تل المشقر
الهجري التاريخي في الأحساء كما وصفه ابنُ الأعرابي في نصّه.
قصر دار الحجر
وعبقرية المكان والموضع والبناء
تُعدُّ (دار الحَجَر) من المباني التاريخية في اليمن، وتقع في وادي ضَهَر؛[2] شماليّ
غربيّ صنعاء بثمانية أميال، وتقوم هذه الدار أو الحصن على صخرة تلٍّ عالٍ يبلغ
ارتفاعه 35 متراً، وأرى أنّ هذا التلّ هو ما سمّاه الهمداني بـ(قلّة فِدَّة) في
الجزء الثامن من الإكليل؛ عندما قال عن وادي ضهر:
"ولـ(ضَهر) قُلّة جبل عالية صَلْدَة مُعْنِقة لا تُرقى؛
تُسمّى: فِدّة؛ يقولون إنّ فيها الجنّ؛ يَضْرِبُ بها - أهلُ صنعاء، وغيرُهم – ونَحْتِهَا
المَثلْ".[3]
ووردت الجملة الأخيرة في نسخ أخرى:
"يَضْرِبُ بها - أهلُ صنعاء، وغيرُهم – وبجنِّهَا المَثلْ".[4]
وكان الهمداني قد قال عن وادي ضهر هذا قبل ذلك:
"ومن مآثر اليمن: ضَهْر، وهو موضع فيه وادٍ وقلعة ومصنعة؛
منسوب كلُّ ذلك إلى ضهر بن سعد، وهو على ساعتين من صنعاء أو أقل، وفي هذا الوادي
نهرٌ عظيم؛ يسقي جنَّتي الوادي".[5]
والقصر أو الدار الحالية المبنية على هذه التلة الآن ليست قديمةً
جداً، فهي كانت قصراً لملك اليمن الإمام المنصور علي بن العباس بن الحسين بن
القاسم (ح.: 1775 – 1809م)؛ بني بإشراف وزيره المهندس علي بن صالح العماري في
القرن الثامن عشر الميلادي، وسُمّيتْ بـ(دار الحجر) نسبة إلى هذا التلّ الشامخ
الذي يُطلق عليه الحجر تجوّزاً مثلما يُروى عن الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم –
أنه قال لوفد عبد القيس في وقوفه على (عين الزارة) من بلادهم: "وقمتُ على
عين الزَّارَة؛ على الحَجَر من حيثُ يخرج الماء"؛ أراد بالحجر هضبة صخرية
يُطلق عليها أهالي القطيف مُسمّى (جبل الحُريْف)، فسمّاها الرسول حَجَراً كما نرى.
غير أنّ بعض الباحثين والمؤرخين اليمنيين يرون أنّ هذا القصر بُني
على آنقاض آثار قلعة، أو حصنٍ قديمٍ يُعرف بـ(حصن ذي سيدان)، وفي هذا الصدد يقول
الحَجَريُّ اليماني:
"قَصْرُ (ذو سيدان) وهو المعروف اليوم
بدار الحَجَر ولم يُبنَ في اليمن مثل هذه الدار فيما أعلم لأنها رأس صخرة عظيمة
مشرفة على وادي ضهر".[6]
كما يرجّحُ بعض الباحثين اليمنيين أيضاً أنَّ (ذو سيدان) هذا كان قصراً
وحصناً سبئيّاً حميريّاً قديماً يعود تاريخه إلى العصر الخامس من عصور مملكة سبأ؛
المعروف الآن باسم "عصر المملكة الحميرية"؛ التي أسسها الملك
"أريم ملشان ذو يزن"، مؤسس السلالة الملكية اليزنية الشهيرة، التي
ظهرت في بداية القرن الرابع الميلادي.[7]
وهو كلام منطقي بدليل وجود هذه البئر القديمة المنحوتة في أعلاه، فما
حُفرت هذه البئر إلا ليستقي منها حافروها، وما تكلفوا نحتها في هذا التلّ السامق
في عنان السماء حتى أوصلوها إلى باطن الأرض إلا لأنهم قرروا السكن فوقه والتحصّن
به، وقد وصف الحَجَري اليماني هذه البئر بقوله:
"بئرٌ من زمنِ الجاهليّة منحوتةٌ في الصَّخْرِ
الأصَمّ بعيدةُ الغَوْرْ".[8]
وفي تلّ المشقر الهجري توجد مثل هذه
البئر كما رأينا، فها هو قد اجتمع لدينا الآن في تلّ (دار الحجر) بصنعاء أكثر من
صفة تجمع بينه وبين تل المشقر في هجر (الأحساء)، وهذه الصفات نوجزها فيما يلي:
1. كلٌّ من هذين التلّين في ظهره جبلٌ كبير كالحاضن
له؛ جبل وادي ضهر؛ الحاضن لتل (دار الحجر)، وجبل القارة (الشبعان)؛ الحاضن لتلّ
(المشقر).
2. كلٌّ منهما عبارة عن تلّ صخري منفرد عن لجبل
الحاضن له.
3. كلاهما فيه غرف منحوتة من قبل البشر.
4. كلاهما كان يوجد فيه قلعة أو حصن قديم في أعلاهما.
5. وجود بئرمحفورة في كلي التلّين منحوتتين من أعلاهما
إلى أسفلهما.
6. وجود نهرٍ وُصِف بـ(العظيم) يجري إلى جانب هذين
التلّين، فالنهر الذي يجري إلى جانب تل (دار الحجر) هو النهر الذي ذكره الهمداني
في الجزء الثامن من الإكليل، ونقلته عنه في أول هذا البحث، والنهر الذي كان يجري
إلى جانب تلّ (المشقر) هو نهر محلمّ الذي وصفه الهمداني نفسه بأنه كان نهراً
عظيماً، وذلك في كتابه (صفة جزيرة العرب) كما أوضحتُ في كتابي (هجر وقصباتها
الثلاث).
وإليك الآن عزيزي القارئ بعض الصور
لدار الحجر هذه؛ القائمة على آثار قلعة سبئية قديمة فوق تلّ عالٍ مع بعض التعليق
ومقارنة ما يمكن مقارنته منها بتلّ المشقَّر بالأحساء:
الصورة
الأولى من هاتين الصورتين هي صورة فضائية لتلّ (دار الحجر) المشار إليه بالدبوس
الأخضر، ويبدو بوضوح وقوعه بقرب جبل يحمي ظهره، والصورة الثانية هي صورة فضائية
أيضاً لتلّ (المشقر) الواضح في الصورة وسط البيوت الآن، والذي يقع هو الآخر قرب
جبل يحمي ظهره، وهو جبل القارة الكبير الذي كان يُعرف في التاريخ القديم باسم (جبل
الشبعان)، ويلاحظ أن التشابه ليس في وجود هذين التلّين الصغيرين فقط؛ بل حتى
الجبلين الكبيرين فيهما تشابه واضح في الشكل من الأعلى.
الصورة
الأولى من هاتين الصورتين هي صورة أرضية لتلّ (دار الحجر) بصنعاء، ويبين فيها جبل
وادي ضهر الحاضن لهذا التلّ، والصورة الثانية منهما هي صورة أرضية أيضاً لتلّ
(المشقر) بالأحساء، ويبدو فيها جزءٌ من جبل القارة؛ الحاضن لهذا التلّ هو الآخر.
الصورتان
الأولى والثانية من هذه الصور الثلاث تبرزان تلَّ (دار الحجر) الصخري ذاته؛ المبني
عليه قصر الأئمة الزيدية الواضح أعلى التل، وهو القصر الذي يقول الباحثون اليمنيون
إنه بُني على أساس حصن حميري قديم يعود إلى فترة (مملكة حمير) في بداية القرن
الرابع الميلادي، ويلاحظ أن التل ليس عريضاً جداً، ولكن المهندس اليمني أتقن
استغلال المساحة المتاحة، فجعل تمدد البناء للأعلى؛ كما استطاع هذا المهندس - من
واقع إرث يمني قديم شاهدنا دلالاته في القصور التي سبق عرضها أعلاه – أن يتعامل
بمهارة مع النتوءات والبروزات الصخرية بحيث جعلها تتلاءم مع بناء جدران القصر ليبدو
القصر أو الحصن وكأنه من ذات التلّ اللهم إلا الاختلاف الواضح في اللون، ويلاحظ في
الصورة الثانية وجود فتحتين في أعلى التل تؤديان إلى غرفتين منحوتتين فيه، وسنرى
بعض هذه الغرف لاحقاً.
وأما
الصورة الثالثة، فهي لتلّ المشقر الصخري في الأحساء، والذي ذكر الإخباريون العرب
أنه كانت تقوم عليه قلعة هو أيضاً إلا أنها سقطت جدرانها الآن، وسأذكر أسباب ذلك
في ما يلي من هذا البحث، ويلاحظ في الصورة وجود هذا الغار الصغير الذي يؤدي إلى
عينٍ قديمة تُسمّى الآن الخسيف، وقد أثبت في كتابي (هجر وقصباتها الثلاث) أنها هي
عين هجر التاريخية القدمية، وهي العين التي قام من اتخذ هذا التل قلعة وحصناً له
في الزمن القديم بنحت بئر من أعلى التلّ إلى أن تصل إلى هذه العين التي دُفنت
الآن؛ كما يوجد في هذا التلّ كهوف منحوتة فيه أسوة بتلّ (دار الحجر)، وسنراها بعد قليل.
الصورتان
الأولى والثانية من هذه الصور الأربع هما لبئر تل (دار الحجر) بصنعاء المنحوتة من
أعلى التل إلى أسفله؛ كما تبدو من الأعلى في الصورة الأولى، وكما تبدو من الأسفل
كما في الصورة الثانية، والصورتان الثالثة والرابعة من هذه الصور الأربع هما لبئر
تلّ المشقر بالأحساء؛ المنحوتة هي أيضاً من أعلى التلّ إلى أسفله؛ كما في الصورة
الثالثة، وأما الصورة الرابعة فهي للبئر كما تبدو من الأسفل.
الصورة
الأولى من هاتين الصورتين لبعض الغرف المنحوتة في تلّ (دار الحجر) بصنعاء، والصورة
الثانية منهما لبعض الغرف المنحوتة في تلّ المشقر بالأحساء، والشبه واضح في
الصورتين.
الصورة
الأولى من هاتين الصورتين هي لتلّ (دار الحجر)، والصورة الثانية هي لتلّ (المشقر)،
ولكن كما نرى فإنّ الصورة الأولى لتلّ (دار الحجر) يوجد على التلّ فيها قصر أو حصن
في حين إنّ الصورة الثانية لتلّ (المشقر) لا يوجد عليها سوى هذا النحت الغريب الذي
يشبه الرؤوس، ولكن ماذا لو افترضنا صدق كلام ابن الأعرابي بأنه كان يوجد على هذا التلّ
قلعة أو حصنٌ، وماذا لو افترضنا أيضاً أنّ بناة هذا الحصن هم قومٌ هاجروا من اليمن
حيث تلّ وحصن (دار الحجر) إلى هجر حيث (تلّ المشقر)، وبنوا على هذا التلّ حصناً أو
قلعة مشابهة لقلعة (ذي سيدان) التي كانت على تلّهم (دار الحجر) أو أياً كان مسمّاه
حينها، فإنه يمكننا والحال هذه أن نطلق لخيالنا العلمي عنانه ليرسم لنا صورة لما
كانت عليه قلعة تل المشقر في العام 20 للميلاد وهو تاريخ بناء هذه القلعة – كما
سنرى – وبما أننا لا نملك صورة لتلك القلعة التي كانت قائمة على تلّ (دار الحجر)
في التاريخ القديم، وكذلك لا نملك – بطبيعة الحال - صورة للقلعة التي كانت تقوم
على تلّ (المشقر) في الزمن القديم، فسنعتبر الحصن أو القصر الموجود على تل (دار
الحجر) الآن هو صورة للحصن التاريخي الذي كان يقوم عليها قبله، وأما المشقر، فقد
وضعت له الصورة الثالثة من هذه الصور مرةّ أخرى، وهي الصورة التخيلية المرسومة
بواسطة أحد الفنانين؛ لنرى بالفعل أنّ ما قاله ابن الأعرابي في نصّه من وجود قلعة
على هذا الحصن هو أمرٌ غير مستحيل ولا مستبعد؛ خصوصاً بعد أن رأينا أنّ إنسان شبه
الجزيرة العربية القديم بنى ما هو أكثر صعوبة منها على جبال وتلال شاهقة هي أعلى بكثير
من تل المشقر في هجر.
متى بُنيت قلعة
المشقر ومن هم بُناتها؟
كما ذكرتُ في كتابي (هجر وقصباتها
الثلاث)، فإنّ الذي توصّلتُ إليه فيه من تاريخ بناء قلعة المشقر هو أنها بُنيت عام
20 للميلاد، وذلك نقلاً عمّا ذكره رجال الدولة العثمانية الثانية الذين احلتوا
الأحساء للفترة (1871-1913)،
فكتبوا في السالنامه الخاصة بولاية البصرة التي كان يتبعها لواء الأحساء حينها
أنهم وجدوا عند آثار قلعة مخربة في بلدة القارة من الأحساء حجراً مكتوب فيه باللغة
العبرانية ما يفيد أنّ هذه القلعة بنيت قبل 1880 سنة من تاريخ كتابة هذه السالنامه،[9]
وهذه السالنامة مؤرخة بالعام 1318 للهجرة، فيكون تاريخ بناء القلعة وفق ذلك قد تم
في العام 20 للميلاد.
وأما الذين بنوا هذه القلعة في هذا العام؛ أعني
سنة 20 للميلاد، فلم يُذكروا في هذا النقش على ما يبدو، أو لعلهم ذُكروا، ولكن
الأتراك الذين اكتشفوه لم يذكروهم، واكتفوا بذكر سنة بناء القلعة، ولغة كتابة
النصّ فقط، وهذا النقش لا نستطيع الرجوع إليه الآن لأنه قد تمّت سرقته بكل أسف،
وله قصة معروفة في بلدة القارة دوّنتها في كتابي المذكور، ولكن كون النصّ مكتبوب
بالعبرانية القديمة، فهذا في حدّ ذاته له دلالته على أنّ من بنوا هذه القلعة كانوا
يتحدثون هذه اللغة، أو أنها كانت لغة الثقافة والكتابة لهم، وفي كل الأحوال هو
يعني أنّهم مهاجرون يهود، ولكن من أين جاء هؤلاء اليهود.؟
لقد ذكرتُ في كتابي (جرّه
مدينة التجارة العالمية القديمة) ما تحدث به جوبا ملك نوميديا المتوفى
عام 23 للميلاد عن مدينة سماها (كارَّه) أو (قارّه)، والتي قد تُقرأ (جرّه) أيضاً،
وكُتبت بالرسم اللاتيني هكذا (Carra)، وقال إنّ التجار العرب فتحوها
أو صيّروها سوقاً مركزياً بسبب تجارتهم مع إيليمايس[10] وكرمانيا[11] ونصّ كلامه هو كما
يلي:[12]
"For these trades
they have opened up the city of (Carra), which is the market town for these
parts. From (Carra) everybody used formerly to go to (Gabba), a journey of
twenty days, and to (Palestine) in (Syria)".
وترجمته المقاربة كما يلي:
"لأجل
هذه التجارة؛ فتحوا مدينة قارّه (Carra) التي هي مدينة السّوق لهذه المناطق، ومن
قارّه (Carra) اعتاد الكل فيما مضى الذهاب إلى جبة (GAbba) - في رحلة العشرين يوماً - وإلى فلسطين في سوريا".
ويبدو من هذا النصّ أنّ قارّه (Carra) التي وصفت فيه بأنها سوق تلك المناطق – وستعرف لاحقاً باسم سوق المشقر –
تقع داخل الجزيرة العربية لأنّ النَّصّ يتحدث قبلاً عن تجار الجزيرة العربية المتعاطين
لتجارة العطور مع عيلام وكرمان والبارثيين في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح،
ويدلّ على ذلك أيضاً ذكر بلدة (جبّة) الواقعة في وسط الطريق بين هذه المدينة وبين
سوريا وفلسطين، وجبّة تقع في منطقة حائل على الطريق القديم من الأحساء إلى بلاد
الشام، ولهذا الأمر ذهب الكثير من الباحثين إلى أنّ قارَّة (Carra) التي
افتتحها هؤلاء العرب كما في هذا النص هي (جرّه) نفسها اعتماداً على التشابه اللفظي
لمسمييهما واشتهار كلاً منهما بالتجارة، وكون ازدهارهما في فترة واحدة، وقد أوضحتُ
رأيي في أنّ جرّه هي مدينة هجر العربية ذات الشأن العظيم عند العرب في كتابي (جره
مدينة التجارة العالمية)، ولشهرة هجر والهجريين بالتجارة رُوي عن الخليفة عمر
أنه كان يتعجب من تاجر هجر لإلقائه بنفسه في المخاطر لأجل تجارته.
والملك جوبا ملك نوميديا، والكاتب
لهذا الخبر عن هذه المدينة التي افتتحها العرب توفي عام 23 للميلاد، وقد سبق
ورأينا أنّ النقش الذي رآه العمال الأتراك العثمانيون في بلدة القارة يؤرخ لبناء
قلعة المشقر بالعام 20 للميلاد؛ أي قبل وفاة جوباً بثلاث سنوات، فما قاله جوبا
يقوي ما قاله العمال الأتراك عن تاريخ قلعة المشقر الواقعة في بلدة القارة حسب ما
وجدوه في النقش المذكور، فيبدو أنّ هؤلاء الفاتحين العرب قد بنوا تلك القلعة بعد
فتحهم لمدينة جره.
وإذاً فقد عرفنا حتى الآن أنّ من بنى
هذه القلعة في العام 20 للميلاد هم عربٌ يتحدثون اللغة العبرانية التي تُعتبر
اللغة المقدسة لكل اليهود القدماء والمحدثين، ولهذا كتبوا بها تأريخ هذه القلعة،
وهو يعني أنهم من العرب المتدينين باليهودية التي كانت هي الديانة السماوية
السائدة في الجزيرة العربية في العام 20 من ميلاد المسيح قبل أن تنتشر الديانة
المسيحية فيما بعد، ولو بحثنا في التاريخ القديم لليهود في الجزيرة العربية،
ولاسيما قبل الميلاد بقليل وبعده بقليل أيضاً لوجدنا أنهم كانوا يقيمون فيما بين
تيماء ويثرب (المدينة المنورة)، واليمن الذي كان حكامه من حمير قد تخلوا عن الوثنية واعتنقوا ديانة
توحيدية تتمحور حول الإله رحمن؛ أي الرحمان، ولهذا يرى بعض الباحثين بأن مملكة
حِميَّر كانت مملكة يهودية خالصة مستشهدين ببعض النصوص العبرية القديمة لبعض
حاخامات اليهود في تمجيد بعض الملوك الحميريين في اليمن، وتوجيه الشكر لهم على
مساعدة اليهود فيها، وكان واضحاً في هذه النصوص أنّ كاتبيها كانوا يرون الأسرة
الحميرية الحاكمة تشاركهم دينهم.[13]
وقد ذكر التاريخ بعض الهجرات
والغزوات اليمنية إلى شرق الجزيرة العربية، ثم إلى هجر منها بالذات منذ النصف
الثاني من القرن الثالث الميلادي، وهلمّ نازلاً، وإن كان ذلك لا يعني أنه لم تكن
لهم هجرات سابقة لهذا التاريخ إلا أنّ المصادر المتاحة لا تسعفنا بذكر ما قبل هذا
التاريخ المحدد.
وقد دوّنت النقوش المسندية، والإخباريون العرب اهتمام ملوك
التبابعة في جنوب الجزيرة بغزو مدينة هجر، وحصنها المشقر على وجه التحديد، ففي النص المعروف بنص (شرف الدين 42)[14]
المدوَّن في عهد الملك الحميري شَمِر يَهْرَعشْ بن ياسر يَهْنَعم الذي حكم بين
(275 – 300م) تقريباً ذُكر أنّ هذا الملك كان على رأس حملة وصلَ فيها إلى ما كُتبت
في النص: (قطوصف!! وكوك!!، ومملكة فرس وأرض تنخ)، والذي يبدو أنّ المراد بـ(قطوصف)
هو تحريف أو عدم إتقان قراءة لـ(قطيف)، و(كوك) لعل صحتها هو (كَوْكَب)، ويوجد
مواضع كثيرة قرب القطيف والأحساء وواحاتهما تُسمى بـ(كوكب) و(كويكب)،[15] وأما مملكة الفرس وأرض تنخ في هذا النصّ الحجري،
فالمراد بذلك (هَجَر) لأنّه
من المعروف أنّ حلف تنوخ إنما تَكَوَّنَ في هجر على أثر هجرة مالك بن فهم إليها
بين العامين (196- 231م)، وقد نصَّ ابن دريد على انّ هذا الحلف كان عند عين هجر
تحديداً،[16] وورد في
شرح ديوان ابن المقرَّب ما يؤيد ذلك عند ذكره مسير قبيلته عبد القيس إلى
البحرين في
وقت لاحق لكتابة هذا النقش، وذِكْرِه حروب هذه القبيلة مع سكان البحرين القدماء،
فكان مما ذكره أنهم وجدوا بها قبائل وبطون من إياد وتنوخ والفرس، ونصَّ الشارح على
أنّ قبيلة إياد كانت في القطيف وأن الفرس وقبائل تنوخ كانوا في هجر.[17]
وذكر العوتبي العُماني أيضاً أنّ الملك الحميري
أبي كرب أسعد بن ملكيكرب الذي حكم عام 385م وجه قائداً له يقال له عامر ذو حوال،
فأتى مدينة المشقَّر، فاستباح
أهلها.[18]
وما يؤكد ذلك أيضاً هو الخبرُ الذي أورده
الهمداني عن ابن هذا الملك الحميري، وهو التبّع حسّان بن أبي كرب أسعد؛ حيث ذكر
أنَّه ورد هجر بنفسه، ووقف على نهرها العظيم محلّم فهاله منظره
وقوّة تدفقه وجريانه،[19] كما ذكر الإخباريون
أنّ هذا التبّع قام بتعيين ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر آكل المُرار الكندي على
قبائل معد، فقصد هجر، وسكن حصنها المشقر،
وذكروا أيضاً أنّه حلَّ على ابن أخته أثناء بعض غزواته للعراق.[20]
فمن كل ما سبق يتضح لنا اهتمام الحميريين بهجر والمشقر،
وتسييرهم الجيوش لاحتلالها، واتخاذهم لحصنها المشقر مقر حكمٍ لهم وما أرى اهتمامهم
هذا به إلا لأنّ أسلافهم هم المذكورون في نصّ جوبا بأنهم فتحوا مدينة (قارّة)، أو
(جرّه)؛ التي هي هجر، وصيروها سوقاً، واتخاذهم المشقر حصنها الأشهر دار ملك لهم،
وهذا كله يشي بأنّ أسلافهم من ملوك حمير هم الذين بنوا قلعته على تلّه العالي
استلهاماً لقلاعهم التي بنوها في اليمن على ذات الشكل والهيئة كما مرّ بنا.
نعم توجد نصوص صريحة وواضحة أيضاً في أنّ الفُرس بنوا المشقر
ذكرتها بالتفصيل في كتابي (هجر وقصباتها الثلاث)؛ كقول هشام الكلبي عنه إنه بنته
العجم بالقُفر والقير، وهذا الكلام يعضده ما رواه الطبري في تاريخه عن هشام أيضاً
من بناء عمال من الفرس للمشقر بأمر كسرى، ويعضد روايتهما شارح ديوان ابن المقرَّب،
ويضيف أنّ كسرى الذي أمر ببنائه هو أنو شروان العادل، وهو أحد أواخر الملوك الفرس،
وفي زمنه ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والمشقر توجد لدينا نصوص تثبت أنه أقدم من هذا الملك
الفارسي، ولرفع الإشكال، فإنني أقول إنه لا تتعارض الروايات القائلة ببناء الفرس
للمشقر مع كون مهاجرين يمنيين من حمير قد بنوه أيضاً، فالمهاجرون الحميريون هم من
بدأوا ذلك ببناء القلعة في أعلاه، ونحت البئر من أعلاه إلى أسفله حيث عَيْن هجر،
وقد يكونون ربما نحتوا بعض الغرف فيه أيضاً، ثم عندما أخذ الفرس هجر منهم في زمن
الملك أنوشروان قاموا هم أيضاً بنحت غرفٍ أخرى في تل هذا الحصن، فيصحُّ لنا بذلك
القول ببناء كلٍّ من الحميريين والفرس لهذا الحصن.
غير أنه يبقى السؤال المحيّر حتى الآن، وهو أين هذه القلعة
التي بناها الحميريون على تلّ المشقر،؟ ولماذا لا نرى لها أثراً اليوم؟ وهو سؤالٌ
وجيه جداً، ولكن من يخبر التاريخ يعلم جيداً أنّ كثيراً من القلاع والحصون
المذكورة في التاريخ لا يوجد لها أثرٌ يُذكر الآن، ومنها حصون وقلاع في اليمن ذاته
الذي قدّم لنا أكثر الحصون الجبلية إبداعاً وإتقاناً، فمن هذه الحصون: حصن غمدان
الأشهر على مستوى اليمن كلّه، والمعروف موضعه بجنب المسجد الجامع الكبير في صنعاء
الآن؛ هذا الحصن الذي كان المثل يُضربُ بشموخه ومنعته[21]
لا يوجد له اليوم أثرٌ، وكذلك الحال بخصوص حصن ناعط في اليمن أيضاً لا يوجد له أثر
الآن، وهو الذي ذكره لبيد بن ربيعة العامري مقروناً مع حصن المشقر في هجر، وحصن
دومة الجندل وهو قوله:
وَأفنَى بَنَاتُ الدَّهرِ أربَابَ نَاعِـــــــطٍ
بمُسـتَمَعٍ دُونَ السَّـمَاءِ وَمَــــــــــنظَرِ
وَأعوَصنَ بالدَّومِيّ مِن رَأسِ حِصنِهِ
وَأنْزَلنَ بالأســبَابِ رَبَّ (المُـشَـقَّــرِ)
فلو لاحظنا هنا فإنّ لبيد يتحدث عن الموت الذي لا يمكن أن تقف في
وجهه حصون تمنع أصحابها منه، فذكر للتدليل على قوله ثلاثة حُصونٍ كانت مشهورة في
بلاد العرب بشدة حصانتها، وهي حصن ناعط - الذي عرّفه البكري في رسم (ريدان) من
معجم ما استعجم بأنه قصر في رأس جبل - وحصن الدّومي - وهو حصن دومة الجندل المعروف
حتى الآن، وهو مبني فوق هضبة عالية أيضاً، وحصن المشقر، فإذا لاحظنا فسنرى أنّ
حصني ناعط ودومة مبنيان على تلٍّ وهضبة صخريتين عاليين كما ذكر المؤرخون عن ناعط،
وكما نرى في حصن دومة حتى الآن، وعلى ذلك، فإنّ الاستدلال العقلي والقراءة المنطقية
لشعر لبيد تقول إنّ حصن المشقر هو الآخر يجب أن يكون على رأس جبل عالٍ لأنّ لبيداً
زار هجر زيارات متعددة، وله قطعة شعرية يصف فيها النخل الواقع بين المشقر والصفا
والشبعان وخليج العين وصْفاً شيّقاً، فلا شك أنه رأى قلعة المشقر على حصن عال، وهو
هذا التلّ الموجود الآن في بلدة القارة، ولهذا قرنه بحصني دومة وناعط لتشابهه
معهما في البناء والشكل، وكلُّ ذلك يثبت لنا أنّ قلعة المشقر كانت مبنية على تلٍّ
عالٍ، وهو تلُّ راس القارة في بلدة القارة من الأحساء،
ولكننا لا نرى لها أثراً الآن لعدة أسباب تشبه تلك الأسباب المسئولة عن اختفاء
حصني غمدان وناعط العظيمين، فحصن غمدان يُروى أنّ الخليفة عثمان بن عفان أمر بهدمه
وتسويته بالأرض، وأرى أنّ قلعة المشقر قد حصل لها ذات الأمر؛ خصوصاً وأنّ هذا
الحصن وقلعته قد تعرضوا لكثير من الغَزوات قبل الإسلام وبعده، وفي بعض هذه الغزوات
القديمة ورد في أخبارها ما يشي بحدوث عملية تخريبية لهذا الحصن وعينه التاريخية
التي كانت تُسمّى بـ(عين هجر)، وهي التي تنخ عندها التنوخيون كما مرّ بنا، فقد روى
المؤرخون العرب أنّ المنذر بن النعمان بن المنذر زعيم المرتدين الذين هاجموا عبد
القيس في بلادها البحرين بعد أن انهزم في الحرب دخل إلى المشقر وأرسل الماء حوله فلم يوصل
إليه حتى صالح،[22]
وواضح من قوله أنه دخل إلى المشقر، وأجرى الماء حوله أنه قام بخرق فتحة
في جدار المشقر؛ في الجهة التي فيها البئر المنحوتة، فصار الماء بدلاً من أنه كان
يصعد إلى أعلى البئر، وينزل على هيئة شلال بسيط جداً – كما أوضحت في كتابي عن هجر –
صار ينهمر بقوة شديدة جداً بعد فتق هذا الخرق لأنّ المنذر خرقه من الأسفل، لم يعد
الماء يتحلّب إلى الأعلى بصعوبة؛ بل صار يخرج من التل كالبركان حتى صار حول التلّ
كالخندق، وبذلك أضاف المنذر خاصية أخرى من خواص المنعة لهذا الحصن، وفي الوقت ذاته
كان فعله هذا أول فعل مدوّن تاريخياً عن عبث الغُزاة بالمشقر ومكوناته.
وأما القلعة التي كانت تقوم في أعلى
هذا التلّ، فنستطيع القول إنها قد سَقَطَتْ أو أسْقِطَتْ من قبل بعض الغُزاة، وهو
ما أرجّحه، فقد تعرّضت هجر، وحصنها هذا لحصار كثير من الغزاة كما رأينا عند ذكر
الغزوات الحميرية، وغزوة المرتدين بقيادة زعيمهم المنذر بن النعمان، ثم غزاها بعد
ذلك الخوارج بقيادة أبي فديك عام 71 للهجرة، وأخيراً كان موعد هذه المدينة وحصنها
المشقر مع نهايتهما المحتومة على يد أبي سعيد الجنابي؛ مؤسس الدولة القرمطية في
البحرين عام 286 للهجرة بعد تمكنه من اقتحام مدينة هجر بعد حصار طويل جداً، فقام
بعد فتحها بدكّ مبانيها دكاً كما يقول الشريف العابد أخو محسن في تاريخه.[23]
وأنا أرجّح أنّ هذا الرجل الذي عُرف
عنه أنه كان يقوم بدك وحرق كل المدن البحرانية التي يظفر بها - كما ذكر المؤرخون -
هو من دكّ قلعة المشقر بهجر، وأسقطها من أعلى التلّ، وأرى أيضاً أنه قام بنقل
حجارتها وحجارة مدينة هجر إلى موضع مدينة الأحساء الذي اختاره، فاستخدمها في بناء
تلك المدينة، فهي حجارة جاهزة ومهذبة، ولا يُراد لنقلها وتهذيبها ذلك الجهد الذي
سيبذله فيما لو أتى بحجارة جديدة من أقرب مقلع للصخور في الأحساء، فالمسافة بين
موضع مدينة هجر – عند الركن الشمالي الغربي من جبل الشبعان (القارة) – وبين موضع
مدينة الأحساء التي بناها أبو سعيد – بالقرب من عين الجوهرية – لا تتعدى ميلين
عربيين كما ذكر المؤرخون.
المُشقر؛ حصنُ هجر الأشهر كان وما يزال شامخاً، ومثار إعجاب الناظرين.
[1] البكري: معجم ما استعجم؛ ج4: 1233.
[2] قال الهمداني في (صفة
جزيرة العرب) عن وادي ضهر هذا إنه وادٍ
كثير الغيول والمآجل والمسايل فيه الأعناب والورس مختلطة في أعاليه مع جميع
الفواكه وأسفله جامع للموز وقصب السكر والأترج والخيار والذُّرة والقثاء والكزبرة
وغير ذلك.
[3] الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني: الإكليل؛ محافد اليمن ومساندها
ودفائنها وقصورها؛ تحقيق الأب أنستاس ماري الكرملي البغدادي (بغداد: مطبعة السريان
الكاثوليكية 1931م)؛ ج8: 81.
[4] الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني: الإكليل في محافد اليمن ومساندها
ودفائنها وقصورها؛ تحقيق: محمد بن علي بن الحسين الأكوع الحوالي (صنعاء: وزارة
الثقافة والسياحة 1004م)؛ ج8: 98.
[5] الحسن بن أحمد
بن يعقوب الهمداني: الإكليل في محافد اليمن ومساندها ودفائنها وقصورها؛ تحقيق:
محمد بن علي بن الحسين الأكوع الحوالي (صنعاء: وزارة الثقافة والسياحة 1004م)؛ ج8: 92.
[6] محمد بن أحمد بن علي
الحجري اليماني: مجموع بلدان اليمن وقبائله؛ تحقيق: إسماعيل بن علي الأكوع (صنعاء:
دار الحكمة اليمانية؛ 1984م)؛ المجلد الثاني؛ الجزء الرابع: الصفحة 759.
[7] أ. فكري آل هِير؛ ضمن
مقابلة لصحيفة الإندبندنت (عربية) لموضوع بعنوان: "دار
الحجر اليمني جذور في الصخر تعانق السماء"؛ نشر يوم الأحد الموافق: 11 أكتوبر
2020م، وانظره على هذا الرابط:
[8] محمد بن أحمد بن علي
الحجري اليماني: مجموع بلدان اليمن وقبائله؛ تحقيق: إسماعيل بن علي الأكوع (صنعاء:
دار الحكمة اليمانية؛ 1984م)؛ المجلد الثاني؛ الجزء الرابع: الصفحة 759.
[9] عبد الخالق بن عبد الجليل
الجنبي: هجر وقصباتها الثلاث؛ المشقر والصفا والشبعان ونهرها محلم (بيروت: دار
الولاء للطباعة والنشر والتوزيع؛ 2012م)؛ الصفحة 231.
[10] يرى الدكتور محمد العبد الغني أنها ربما تكون
مدينة (عيلام) الفارسية، ويبدو أنه محقٌ في ذلك.
انظر بحثه (الجرهاء ودورها في التجارة العربية القديمة) المنشور في مجلة
الواحة لشهر ربيع الأول 1419هـ 1998م؛ العدد 13 الصفحة 132.
[11] هي كرمان
المدينة الفارسية المعروفة حتى الآن.
[12]
انظر عن هذا النص:
دانيال ت. بوتس.: الخليج العربي في العصور القديمة ترجمة إبراهيم خوري (أبو
ظبي: المجمع الثقافي 2003م) ج2: 781،
نجيل جروم: الجرهاء مدينة مفقودة بالجزيرة العربية / بحث منشور في مجلة
أطلال السعودية 1982م العدد السادس الصفحة 97.
[13] انظر:
Shlomo Sand The Invention of the Jewish People, Publisher
Verso, 2010 p.193-194.
[14] أحمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما
قبل الإسلام (الرياض: مطبعة الفرزدق التجارية 1985م) الصفحة 115.
[15] مثل كوكب رفيع وكوكب شحم الواقعان شمال واحة أم الساهك من القطيف، وهناك الكويكب إحدى محلات القطيف الكبرى الواقعة للجنوب من
قلعتها.
[16] ابن دريد: الاشتقاق؛ الصفحة 542.
[17] شارح مجهول: شرح ديوان ابن المقرَّب تحقيق عبد الخالق الجنبي وآخرين(
بيروت: المركز الثقافي للنشر والتوزيع؛ 1424هـ. 2003م) ج2: 933، 1224.
[18] سلمة بن مسلم العوتبي: الأنساب (مسقط: وزارة التراث القومي
والثقافة الطبعة الأولى 1994م) ج1: 200.
[19] الهمداني: صفة جزيرة العرب؛ الصفحة 306.
[20] ابن قتيبة: المعارف؛ تحقيق ثروت عكاشة (مصر: دار المعارف 1969م) الصفحة
634.
[21] منه قول ثعلبة بن عمرو
العبدي من عبد القيس، وهي مفضلية:
وَلَوْ
كُنْتُ في غُمْدَانَ يَحْرُسُ بَابَهُ
أَرَاجِيلُ أُحْبُوشٍ وأَسْوَدُ آلِفُ
إِذاً لأَتَتْنِي، حَيْثُ كُنْتُ،
مَنِيَّتِي
يَخُبُّ بها هَادٍ لإِثْريَ قَائِفُ
[22] أحمد بن يحيى بن
جابر بن داود البَلَاذُري: فتوح البلدان؛ (بيروت: دار ومكتبة الهلال 1988م)؛
الصفحة: 91.
[23] عبد الخالق بن
عبد الجليل الجنبي: المحفوظ من تاريخ الشريف العابد أخي محسن (بيروت: دار المحجة
البيضاء؛ 2019م)؛ ج1: 108.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق