الثلاثاء، 26 مايو 2020

الهبير؛ الرّمل الذي ارعب حجاج العراق وبلاد فارس في الــقرنين الثالث والــرابع الـهـــــــــــــــــجري


سيجدُ القارئ في هذا البحث المُستلّ من كتابي الجديد بعنوان: (المحفوظ من تاريخ الشريف العابد أخي محسن) تحديداً دقيقاً لموضع رمل الهَبيْر الذي شهد وقعتين مدويتين للقرامطة ضد قوافل الحج العراقي؛ قام بهما الزعيمان القرمطيّان: زكرويه بن مهرويه الصَّوَّاني عام 294 للهجرة، وأبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي عام 312 للهجرة، وقد أقَضَّتْ هاتان الوقعتان مضاجع الخلفاء العباسيين، وولاتهم، وكذلك الحُجَّاج الخُرَاسانيين والعراقيين والقائمين على حراسة قوافلهم في السنوات اللاحقة لمدة طويلة.

تعريفُ الهَبـِيْر
الهبير من الأَرض: هو ما كان مطمئناً وما حوله أَرفع منه، ويقال: هي الصُّخُورُ بين الرَّوابي.
وفي رسم [ الهبير ] من معجمه البلداني؛ قال ياقوت الحموي (توفي 626هـ):

"الهبِيرُ: .. رَمْلُ زَرُوْدٍ في طريق مكة كانت عنده وقعة ابن أبي سعيد الجنّابي القرمطي بالحاج يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة 312".

وهذا من المواضع التي أخطأ فيها ياقوت، وسار على خطئه هذا بعض الباحثين في تحديد (رمل الهبير) على أنه الرمل المحيط بـ(زَرُوْد)، والمسمى الآن بـ(عرق المظهور)، والصحيح هو أنّ رمل الهبير ليس هذا العرق، وإنما هو عِرقُ رملٌ آخر يعرف الآن بـ(عرق الهذاليل)، والواقع جنوب وغرب وشمال غرب (لِيْنَة) البلدة التاريخية المشهورة في طريق الحاج العراقي القديم (انظر الخارطة الملحقة)، ووحده موزل انتبه إلى هذا الخطأ، وأرشد إلى الجهة الصحيحة التي ينبغي أن يُبحث عن رمل الهبير فيها.[1]

     تحديد موضع رمل الهبير

لقد كان الشريف أبو الحسين أخو محسن واضحاً جداً في تحديد هذا الرمل، وذلك من خلال ثلاثة مواضع في تاريخه هذا، فقد ذكر في الموضع الأول - عند حديثه عن حركة الزعيم القرمطي زكرويه بن مهرويه، ورحيله من العراق متجهاً نحو نجدٍ لسلب قوافل الحاج العراقي العائدة من مكة إلى العراق عام 294 للهجرة - ما هذا مختصره:

"ثم رحل زكرويه يريد القافلة الثالثة، .. ونزل زُبَالة، .. فلما أبطأت القافلة عليه نزل الشّقوق، ثم نزل في رمل يقال له الهبير والطليح، وأقام ينتظر القافلة".[2]

ففي هذا النصّ نرى أنّ زكرويه سار على طريق الحج العراقي الكوفي باتجاه الحجاز، فنزل (زُبالة) إحدى محطات هذه الطريق، وهي لا زالت معروفة عند الإحداثيات:

(29° 23' 46.4" N  43° 33' 44.3" E)

ثم سار منها ونزل (الشّقوق)، وهي تُعرف الآن بـ(الشيْحيّات) كما حددها موزل – مصيباً – عند الإحداثيات:

(29° 05' 44.4" N  43° 28' 34.8" E)

ثم سار بعد ذلك فنزل في رمل الهبير والطليح، ومن الواضح من هذا النصّ أنّ رمل الهبير والطليح هذا يقع بعد الشقوق (الشيحيات) مباشرة باتجاه الحجاز على طريق الحج الكوفي لأنّ زكرويه كان يكمن لقافلة الحج القادمة من مكة، والمتجهة إلى العراق على ذات الطريق أي باتجاه معاكس لوجهته.

وفي الموضع الثاني؛ قال عن قافلة الحاج إياها الآتية من مكة، والمتجهة إلى العراق:

"وأقاموا بـ(فَيْد) .. فلمّا طال مقامهم نفذ ما في المنزل وغلا السعر جداً، وجَلَوْا عن (الأجَفُر)،  و(الخُزَيميّة)،  ثم (الثَّعْلَبيِّة)،  ثم (الهَبيْرِ)، فلم يستتم نزولهم حتى ناهضهم زِكْرَوَيْه".[3]

وواضح من هذا النصّ أنّ قافلة الحج المنكوبة هذه كانت في فَيْد ذات الإحداثيات:

(27° 06' 44.8" N 42° 30' 52.9" E)

ثم تحرّكت من فيْد باتجاه العراق، فأجلت عن الأجفر ذات الإحداثيات:

(27° 28' 10.8" N 42° 59' 45.6" E)

ثم الخزيمية، وهي ماء زرود، وتقع عند الإحداثيات:

(27° 49' 37.0" N 43° 12' 07.2" E)

ثم الثعلبية التي لا زالت معروفة حتى الآن، وتقع عند الإحداثيات:

(28° 16' 15.7" N 43° 14' 20.4" E)

ثم بعد جلاء القافلة عن الثعلبية هذه دخلت في الهبير كما هو واضح من سياق النصّ.

والموضع الثالث الذي حدد فيه الشريف أخو محسن موقع رمل الهبير كان عند ذكره لأخبار أبي طاهر بن أبي سعيد الجنابي وخروجه من الأحساء لاعتراض قوافل الحج العراقي أيضاً عام 312 للهجرة؛ حيث قال ما هذا مختصره عند ورود أولى قوافلهم من مكة إلى (فيْد) متجهة إلى العراق:
"وورد حاتم الخراساني بقافلة الحاج من مكة .. ثم ارتحل..، فلما صار حاتم بالثعلبيّة أنهي إليه شيء من أخبار القرامطة وأنّهم بـ(لينة) .. فاجتاز بالهبير ليلا فلم ينزله، وسار حتى نزل الشقوق".[4]

ومن هذه النصوص الثلاثة يتضح لنا بما لا شك فيه أنّ الهبير هو الرمل الواقع بين الشقوق المعروفة الآن بـ(الشيحيات)، وبين الثعلبية التي لا زالت معروفة للشمال من زرود بـ50 كيلومتراً.
وهو ذات التحديد عند المسعودي في كتابه (التنبيه والإشراف) عندما قال عن زكرويه بن مهرويه ووقعته التي سبق أن ذكرها الشريف أخو محسن في النصّ الأول المتقدم معنا هنا:

"ثم لقي قافلة السلطان الثالثة التي فيها الشمسة في الموضع المعروف بالطليح من الهبير، وذلك بين الثعلبية والشقوق في الرمل".[5]

فنصُّ المسعودي هذا يدعم بقوة نصوص الشريف أخي محسن، ولكن المسعودي أضاف إضافة غاية في الأهمية، وهي قوله: "في الرمل"، وهذا يؤكد لنا أكثر أنّ رمل الهبير هو هذا الرمل الواقع بين هذين الموضعين أعني الثعلبية والشقوق (الشيحيات)، وكذلك يلاحظ أن المسعودي ذكر الطليح الذي ذكره أخو محسن أيضاً، ولكنه خصه وحده بأنه مورد الماء في الهبير في حين كان نصُّ الشريف أخي محسن واضحاً في أنهما ماءان يُسمى أحدهما (الهبير)، والآخر: (الطليح)، وأرى أنّ ما ذكره الشريف هو الأكثر صواباً لأنّ هذا الموضع المتوسط بين الشقوق والثعلبية في وسط الرمل، والذي كان يُسمى في السابق بـ(البطان)، لا زال يوجد به أثار بركتين من برك درب الحج العراقي القديم أقيمتا فيه كما سنرى.

وللمسعودي نصٌّ آخر ذكره في كتابه (مروج الذهب) عن قبر العبادي يفيد أيضاً في تحديد رمل الهبير، وهو قوله عن هذا القبر: "وفي طريق العراق الى مكة - وذلك بين الثعلبية والهبير نحو البطان - موضع يعرف بقبر العبادي".[6]

ومن هذا النصِّ يتضح لنا وجود موضع يقع بين الثعلبية ورمل الهبير يُدعى البطان، وبقربه قبرٌ يدعى (قبر العبادي)، وكان هذا القبر مشهوراً جداً عند المارين على طريق الحج العراقي الكوفي، وصار يُعرف في القرن السابع الهجري وما بعده بـ(قبر المرجوم) كما نجد عند ابن جبير وابن بطوطة في رحلتيهما.

والبطان هو ما يُعرف الآن بـ(العشّار)، وهذا الموضع عبارة عن أرض صخرية مرتقعة بعض الشيء؛ تقع وسط الرمال، وهو محطة معروفة من محطات طريق الحاج العراقي الكوفي القديم، وهو يقع عند الإحداثيات:

(28° 40' 31.3" N  43° 21' 43.2" E)

وهذا الموضع يوجد به بركتان كبيرتان من برك درب زبيدة، وتُعرف الآن بـ(برك العَشَّار)؛ إحداهما، وهي الشرقية منهما تقع على قارعة الدرب مباشرة، وهذه إحداثياتها:

(28° 40' 25.1" N 43° 20' 54.1" E)

والأخرى، وهي الغربية تقع على بعد ميلٍ ونيّف غرب البركة الأولى، وهذه إحداثياتها:

 [7](28° 40' 25.1" N 43° 20' 54.1" E)

وإذاً فإنه بالقرب من هاتين البركتين الواقعتين في البطان، والواقع هو الآخر في وسط رمل الهبير وقعت هاتان الوقعتان المهولتان على قافلة الحاج العراقي من قبل الزعيمين القرمطيين زكرويه بن مهرويه الصَّوَّاني، وأبي طاهر الجنابي، واللتين كان الشريف أبو الحسين أفضل مؤرخ فَصَّل القول في أحداثهما ووصفهما كما رأينا في تاريخه هذا.

وفيما يلي بعض الصــور الفـضائية التي تحدد موقع رمل الهبير، وبركتي العشار اللتين من المعتقد أنهما كانتا هما موردا الهبير والطليح اللذين كانت قافلة الحاج العراقي تنزلهما بعد ارتحالها من الشقوق المعروفة الآن بالشيحيات في حال كان سير القافلة من العراق إلى الحجاز، أو بعد ارتحالها من الثعلبية في حال كان سير القافلة من الحجاز إلى العراق.

الملحقات:

 صورة فضائية من موقع (google maps) أوضحت فيها موقع رمل الهبير المعروف الآن بـ(الهذاليل)؛ كما أوضحتُ فيها موقعي (الثعلبية)، و(الشقوق) الموضعين اللذين كان رمل الهبير يقع بينهما، وكذلك موقع البطان الذي يُسمى الآن العشّار.
 صورة فضائية من موقع (bing maps) لموقع البطان المعروف الآن بالعشار، والذي يقع فيه بركتان من برك درب الحج العراقي المعروف بـ(درب زبيدة)،ويلاحظ أنّ رمل الهبير يحيط به من جميع جهاته.
 بركة العشار (البطان) الشرقية إحدى بُرك درب زبيدة الشهير، وهي البركة التي تطل مباشرة على الدرب الواضحة آثاره إلى يمينها في الصورة.

بركة العشار (البطان) الغربية، وهي تبعد إلى الغرب من البركة السابقة بميلٍ ونيّف تقريباً.

هوامش التحقيق:


[1] حمد الجاسر: المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية - شمال المملكة؛ رسم [ الهبير ].
[2]  عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي: المحفوظ من تارخي الشريف العابد أخي محسن (بيروت: دار المحجة البيضاء 2019م)؛ ج1: 167.
[3] عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي: المحفوظ من تارخي الشريف العابد أخي محسن (بيروت: دار المحجة البيضاء 2019م)؛ ج1: 168
[4] عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي: المحفوظ من تارخي الشريف العابد أخي محسن (بيروت: دار المحجة البيضاء 2019م)؛ ج1: 180.
[5]  علي بن الحسين المسعودي: التنبيه والإشراف؛ تحقيق دي غويه (ليدن: مطبعة بريل 1893م)؛ الصفحة: 375.
[6]  علي بن الحسين المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر (بيروت: المطبعة العصرية 2005م)؛ ج2: 63.
[7]  يُنظر الصورة المرفقة.