خَفّاْن مأسدة الكوفة الشهيرة في التاريخ والأدب
العربيين[1]
عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي
هذا الموضع له شهرة كبيرة في الشعر العربي، ودائماً ما ضرب الشعراء العرب
المثل بأُسُوْدِه لأنه كان أحد المأسدات المشهورة في ديار العرب، ومع ذلك، فقد
اندثر اسمه، وجُهل موضعه في أيامنا هذه، وكذلك لم يُحَدّد موضع خَفّان تحديداً
دقيقاً من قِبَلِ شُرَّاح الشعر العربي والمؤرخين، ولاسيما البلدانيين، وإن كان
المستفاد من كلام بعضهم أنه كان يقع بالقرب من سواد القادسية من ناحية الكوفة.
فالطبري عندما ذكر حروب المثنى بن حارثة الشيباني مع الفرس قبيل حرب القادسية نجده يذكر أنّ المثنى عندما اجتمع بعض القادة الفرس على حربه خرج من السواد إلى خفان هذه لئلا يؤتى من خلفه؛ كما إنه ذكر أنه أقام بخفان أياما ليستجم أصحابه، وفي هذا دلالة على أنه موضع بَرِّيّ طرفيّ خارج نطاق نخيل السواد، وفي مثل هذه المواضع يمكن كشف الجيش الغازي من مسافة تكفي للاستعداد له، وفي موضع آخر ذكر الطبري أنّ القائد الفارسي رستم نزل على نهر اسمه العتيق عند توجهه إلى قتال المسلمين من السيلحين قرب الحيرة، وجاء في هذا الخبر أنه بات على العتيق هذا، وعندما أصبح "سَاْيَرَ العَتيْقَ نحوَ خَفّانْ"، والعتيق هذا هو نهر يبدأ فمه جنوب الحيرة، وقد صادف خالد بن الوليد عند فمه هذا مقدمةً لجُند فارس وقت سيره نحو الحيرة ليفتحها كما ورد عند الطبري (ج3: 359 ط. دار التراث – بيروت 1387هـ).
ومن أفضل النصوص التي تحدد موقع خفان قطعةٌ من قصيدة رائية للشماخ الذبياني وصف فيها طريقه من نجد إلى الحيرة بالعراق، وذكر المواضع التي مرّ بها في رحلته هذه، فذكر منها زرود، فزبالة حتى صار في البُسيْطة من بادية السماوة، إلى أن وصل العُذيب برّ القادسية، وهنا يقول مشيراً إلى ناقته، ومعدداً المواضع في العُذيب هذا:
وَأَضحَت عَلى ماءِ العُذَيبِ وَعَينُها
|
|
|
|
كَوَقبِ الصَفا جِلسِيُّها
قَد تَغَوَّرا |
|
فَلَمّا دَنَت لِلبَطنِ
عاجَت جِرانَها |
|
|
|
إِلى حارِكٍ ينمي بهِ
غَيرُ أَدبَرا |
|
وَقَد أُلْبسَتْ أَعلى
البُرَيدينِ غُرَّةً |
|
|
|
مِنَ الشَمسِ إِلباسَ
الفَتاةِ الحَزَوَّرا |
|
وَأَعرَضَ مِن خَفّانَ
أُجمٌ يَزينُهُ |
|
|
|
شَماريخُ باها بانِياهُ
المُشَقَّرا |
|
فَرَوَّحَها الرَجافُ
خَوصاءَ تَحتَذي |
|
|
|
عَلى اليَمِّ بارِيَّ
العِراقِ المُضَفَّرا |
|
ويتضح من هذا النصّ أنّ الشمّاخ بعد أنْ أصبح في أوّل العُذيب، وهو برّ
القادسية وصل إلى البطن - الذي يبدو أنه (بطن الغميس) المذكور في شعر الأعشى كما
ذكرتُ في التعريف بـ(فرات بادقلى) - وهنا ذكر أنه قد بانَ لهم عن بعد أجمٌ – أي
قصرٌ أو حصن – شَبَّهَهُ بالمُشَقَّرِ حِصْنِ هَجَر الشهير، والذي كان تلاً صخرياً
حُفرت فيه غرفٌ وأقيم حوله سورٌ ومدينة، ثم ذكر الشماخ أنّ نهاية رحلته كانت عند
(الرَّجّاف)، والرجاف: البحر، وأراد به بحر النجف، فخفان إذاً هو قريبٌ من
القادسية وعُذيبها على الطريق المؤدي منهما إلى بحر النجف.
ويضيف لنا الأزهري في مادة [ خفن ] من كتاب (تهذيب اللغة) تحديداً جيداً لـ(خَفّان) عندما قال: "وخَفَّانُ: مَوْضِعٌ، وهو مأسَدَةُ بين الثّنْي وعُذَيْبٍ".
وقد عرفنا أنّ العُذيب هو برُّ القادسية الواقع للغرب والجنوب الغربي منها، وأما الثني، فهو (ثنْي كافر)، وكافر اسمُ علمٍ لنهر الحيرة كما في رسمه من (معجم البلدان)، وهو مع البطنِ ذكرهما المتلمّس في شعره عندما ألقى الصحيفة التي كتبها له ملك الحيرة عمرو بن هند إلى حاكم البحرين – وفيها الأمر بقتله – فألقاها في هذا النهر، وقال:
وألقيتها بالثنْي من بطن كافرٍ كذلك أقنو كل قط مضللِ
وأيضاً من النصوص الدقيقة جداً في تحديد موضع خَفّان نصٌّ للطبري ذكره في تاريخه عند ذكره خروج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلوي على الخليفة المنصور العباسي في البصرة سنة 145 للهجرة، فقد جاء فيه قوله:
"إنَّ رجلاً من أهل خُراسان يُكْنَى أبا الفضل، ويسمى فلان بن معقل ولي القادسية ليمنع أهل الكوفة من إتيان إبراهيم، وكان الناس قد رُصِدُوا في طريق البصرة، فكانوا يأتون القادسية، ثم العُذيْب، ثم وادي السباع، ثم يعدلون ذات اليسار في البر، حتى يقدموا البصرة، فخرج نفر من الكوفة - اثنا عشر رجلا - حتى إذا كانوا بوادي السباع لقيهم رجل من موالي بني أسد، .. فأتى ابن معقل فأخبره، فاتبعهم فأدركهم بخفان- وهي على أربعة فراسخ من القادسية- فقتلهم أجمعين".
وتكمن أهمية هذا الخبر في معرفتنا لجهتي الخروج والوجهة لهؤلاء المقتولين، فهم خرجوا من الكوفة متجهين نحو البصرة في الجنوب، وكان خطُّ سيرِهم بهذه الصورة: (الكوفة – القادسية – العُذيب – وادي السباع – خَفّان) ومنه يتضح أنّ خَفّان تقع على طريق البصرة بعد وادي السباع الذي يقع بعد العُذيب الذي يقع بعد القادسية المعروف موضعها حتى الآن، وأنّ المسافة بين خَفّان والقادسية هي أربعة فراسخ بحسب هذه الرواية الطبرية، وهو ما يعني أنّ بينهما اثنا عشر ميلاً؛ غير أنّه في المطبوع من كتاب المسعودي: (التنبيه والإشراف؛ الصفحة 390 ط. ليدن) ذُكر أنّ المسافة بين خَفَّان والقادسية هي ستة أميال فقط.
وأما بخصوص (وادي السِّباع) الواقع بين القادسية وخفّان - في رواية الطبري – فقد ذكر باسم (وادي السباع)، و(مرج السباع) أيضاً، ففي تاريخ الطبري في ذكر حرب الحجاج مع ابن الأشعث عند (دير الجماجم) قرب الكوفة نجد ما هذا نصّه ملخصاً:
"وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعُذيب، ومنعوه من نزول القادسية، .. ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحَجَّاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم".
فهو هنا سمّاه (وادي السباع)، وذكر ما يؤكد على أنه كان يمرُّ به الطريق القادم من البصرة إلى الكوفة، فإذا صار هذا الطريق بين سواد القادسية والعُذيب، فإنه يصلُ بعد ذلك إلى وادي السباع من جهة الكوفة.
وذكر في (الروض المعطار) في رسم [ البويب ] باسم (مرج السباع) عندما قال عن حرب المثنى مع الفرس:
"فخرج مهران في الجنود يريد الحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباع ما بين القادسية وخفان، فاستبطن فرات بادقلى".
ونلاحظ في هذا الخبر أنّ (وادي السباع) أو (مرج السباع) كان يقع قريباً جداً من خَفّان، وقد دَوَّنَ موزل عام 1915 للميلاد وجود موضع به بحيرة كان يُطلق عليهما مسمى: (أم السّباع)، و(بحيرة أم السباع) يقعان جنوبي شرقيّ الرّحبة (رحبة الكوفة) على مسافة 50 دقيقة للماشي على قدميه، وكان موزل متجهاً من الرّحبة إلى القائم الواقع للغرب من الشنافية بعشرة كيلومترات. (موزل: الفرات الأوسط؛ الصفحة 165 - 166)، وهذا يعني أنّ خَفّان تقع للجنوب من هذه البحيرة قرب القائم الذي كان موزل قاصداً إليه، وهو بالفعل ما نجده واضحاً في نصٍّ لابن الأثير دونه في كتابه (الكامل في التاريخ؛ أحداث سنة 446هـ)، وذلك عندما قال عن حرب نور الدولة دبيس بن مزيد الأسدي مع قبيلة خفاجة في السنة المذكورة، فقال ما هذا ملخصه:
"عبر الفرات من ساعته، وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين، فانهزموا منه ودخلوا البر، .. فتبعهم فلحقهم بخفان، وهو حصن بالبر، فأوقع بهم، .. وحصر خفان ففتحه وخربه، وأراد تخريب القائم به، وهو بناء من آجر وكلس، وصانع عنه صاحبه ربيعة بن مطاع بمال بذله، فتركه وعاد إلى البلاد".
وهذا القائم ذكر البغدادي في رسمه من (مراصد الاطلاع) أنه:
"بناءٌ قديمٌ بخَفّان فى بَرِّ الكُوْفَةِ يُعرف بهْ".
ولا زالت هذه التسمية – أعني القائم – تُطلق حتى اليوم على قرية وحصنٍ قديم يقعان جنوبي شرقي العُذيب بالقرب من المرقد المسمى الآن بمرقد (عبد الله أبو نجم)، وهو الذي وصفه موزل في كتابه (الفرات الأوسط) كما ذكرتُ قبل قليل، وبالمناسبة، فإنّ هذا الحصن يقع إلى الجنوب من القادسية بثمانية أميال، وكل ما ورد في النصوص المتقدمة التي وضعتها لتحديده هنا تنطبق على هذا الموضع، وهو ما جعلني أرى أنّ القائم هذا هو موضع خفّان التاريخية.
ومما يؤكد هذه النتيجة أيضاً هو ما ورد في رسم [ رحبة ] من (معجم البلدان)؛ حيث جاء فيه عن السكوني قوله في تعديد طرق الحج من الكوفة إلى مكة:
"ومن أراد الغرب دون المغيثة خرج على عيون طف الحجاز فأولها عين الرحبة، وهي من القادسية على ثلاثة أيام – الصحيح ثلاثة أميال -، ثم عين خفية".
فالرحبة معروفة حتى اليوم، وهي تقع شمالي غرب القادسية بـ8 كيلومترات، وهذا يعني أن عين خفية تقع بعدها جنوبيّها أوفي جنوبيّها الغربي، وليس شمالاً أو شرقاً لأن الطريق متجهة نحو الغرب أو الجنوب الغربي، وهو ما يوضح لنا ما ذكره الحموي أيضاً في رسم [ خفان ] عن السكوني نفسه – الذي يبدو أنه تحرف إلى السكري هنا – وهو قوله:
"قال السكري: خفان وخفية أجمتان قريبتان من مسجد سعد بن أبي وقاص بالكوفة".
ومسجد سعد هذا نصَّ الهروي في (الإشارات؛ الصفحة 74 ط. القاهرة 2002م) على أنه يقع في العُذيب.
وعليه تكون عين خفان هي العين القريبة من حصن أو قلعة القائم المذكور، والتي ذكر موزل أنها تقع في الناحية الغربية من القلعة، وأنها تخرج من صخورٍ هناك، ويجري نهرها الذي وصفه بالكبير، فيمرّ إلى جانب القلعة (موزل: الفرات الأوسط؛ الصفحة 171)، وعلى ضوء ذلك يبدو أنّ عين خفيّة هي العين الواقعة في شماليها الغربي بسبعة كيلومترات، وهي العين التي كانت تُسمّى بـ(عين الخويسة) سابقاً، وصار الناس الآن يسمّونها (عين الإمام الحسن).
الخرائط والصور التوضيحية
[1] هذا البحثٌ هو
عبارة عن حاشية عرّفت فيها بهذا الموضع في تحقيقي لكتاب: (المحفوظ من تاريخ الشريف
العابد أخي محسن)؛ حيث أخذتُ على عاتقي التعريف بكل موضع ذكره الشريف العابد في تاريخه
المشار إليه، والذي نشرته مؤخراً.