الاثنين، 28 ديسمبر 2020

خفان المأسدة الكوفية التاريخية

 

خَفّاْن مأسدة الكوفة الشهيرة في التاريخ والأدب العربيين[1]


عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي


هذا الموضع له شهرة كبيرة في الشعر العربي، ودائماً ما ضرب الشعراء العرب المثل بأُسُوْدِه لأنه كان أحد المأسدات المشهورة في ديار العرب، ومع ذلك، فقد اندثر اسمه، وجُهل موضعه في أيامنا هذه، وكذلك لم يُحَدّد موضع خَفّان تحديداً دقيقاً من قِبَلِ شُرَّاح الشعر العربي والمؤرخين، ولاسيما البلدانيين، وإن كان المستفاد من كلام بعضهم أنه كان يقع بالقرب من سواد القادسية من ناحية الكوفة.

فالطبري عندما ذكر حروب المثنى بن حارثة الشيباني مع الفرس قبيل حرب القادسية نجده يذكر أنّ المثنى عندما اجتمع بعض القادة الفرس على حربه خرج من السواد إلى خفان هذه لئلا يؤتى من خلفه؛ كما إنه ذكر أنه أقام بخفان أياما ليستجم أصحابه، وفي هذا دلالة على أنه موضع بَرِّيّ طرفيّ خارج نطاق نخيل السواد، وفي مثل هذه المواضع يمكن كشف الجيش الغازي من مسافة تكفي للاستعداد له، وفي موضع آخر ذكر الطبري أنّ القائد الفارسي رستم نزل على نهر اسمه العتيق عند توجهه إلى قتال المسلمين من السيلحين قرب الحيرة، وجاء في هذا الخبر أنه بات على العتيق هذا، وعندما أصبح "سَاْيَرَ العَتيْقَ نحوَ خَفّانْ"، والعتيق هذا هو نهر يبدأ فمه جنوب الحيرة، وقد صادف خالد بن الوليد عند فمه هذا مقدمةً لجُند فارس وقت سيره نحو الحيرة ليفتحها كما ورد عند الطبري (ج3: 359 ط. دار التراث – بيروت 1387هـ).

ومن أفضل النصوص التي تحدد موقع خفان قطعةٌ من قصيدة رائية للشماخ الذبياني وصف فيها طريقه من نجد إلى الحيرة بالعراق، وذكر المواضع التي مرّ بها في رحلته هذه، فذكر منها زرود، فزبالة حتى صار في البُسيْطة من بادية السماوة، إلى أن وصل العُذيب برّ القادسية، وهنا يقول مشيراً إلى ناقته، ومعدداً المواضع في العُذيب هذا:

وَأَضحَت عَلى ماءِ العُذَيبِ وَعَينُها


 

 

كَوَقبِ الصَفا جِلسِيُّها قَد تَغَوَّرا

فَلَمّا دَنَت لِلبَطنِ عاجَت جِرانَها

 

 

إِلى حارِكٍ ينمي بهِ غَيرُ أَدبَرا

وَقَد أُلْبسَتْ أَعلى البُرَيدينِ غُرَّةً

 

 

مِنَ الشَمسِ إِلباسَ الفَتاةِ الحَزَوَّرا

وَأَعرَضَ مِن خَفّانَ أُجمٌ يَزينُهُ

 

 

شَماريخُ باها بانِياهُ المُشَقَّرا

فَرَوَّحَها الرَجافُ خَوصاءَ تَحتَذي

 

 

عَلى اليَمِّ بارِيَّ العِراقِ المُضَفَّرا

ويتضح من هذا النصّ أنّ الشمّاخ بعد أنْ أصبح في أوّل العُذيب، وهو برّ القادسية وصل إلى البطن - الذي يبدو أنه (بطن الغميس) المذكور في شعر الأعشى كما ذكرتُ في التعريف بـ(فرات بادقلى) - وهنا ذكر أنه قد بانَ لهم عن بعد أجمٌ – أي قصرٌ أو حصن – شَبَّهَهُ بالمُشَقَّرِ حِصْنِ هَجَر الشهير، والذي كان تلاً صخرياً حُفرت فيه غرفٌ وأقيم حوله سورٌ ومدينة، ثم ذكر الشماخ أنّ نهاية رحلته كانت عند (الرَّجّاف)، والرجاف: البحر، وأراد به بحر النجف، فخفان إذاً هو قريبٌ من القادسية وعُذيبها على الطريق المؤدي منهما إلى بحر النجف.

ويضيف لنا الأزهري في مادة [ خفن ] من كتاب (تهذيب اللغة) تحديداً جيداً لـ(خَفّان) عندما قال: "وخَفَّانُ: مَوْضِعٌ، وهو مأسَدَةُ بين الثّنْي وعُذَيْبٍ".

وقد عرفنا أنّ العُذيب هو برُّ القادسية الواقع للغرب والجنوب الغربي منها، وأما الثني، فهو (ثنْي كافر)، وكافر اسمُ علمٍ لنهر الحيرة كما في رسمه من (معجم البلدان)، وهو مع البطنِ ذكرهما المتلمّس في شعره عندما ألقى الصحيفة التي كتبها له ملك الحيرة عمرو بن هند إلى حاكم البحرين – وفيها الأمر بقتله – فألقاها في هذا النهر، وقال:

وألقيتها بالثنْي من بطن كافرٍ      كذلك أقنو كل قط مضللِ

وأيضاً من النصوص الدقيقة جداً في تحديد موضع خَفّان نصٌّ للطبري ذكره في تاريخه عند ذكره خروج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلوي على الخليفة المنصور العباسي في البصرة سنة 145 للهجرة، فقد جاء فيه قوله:

"إنَّ رجلاً من أهل خُراسان يُكْنَى أبا الفضل، ويسمى فلان بن معقل ولي القادسية ليمنع أهل الكوفة من إتيان إبراهيم، وكان الناس قد رُصِدُوا في طريق البصرة، فكانوا يأتون القادسية، ثم العُذيْب، ثم وادي السباع، ثم يعدلون ذات اليسار في البر، حتى يقدموا البصرة، فخرج نفر من الكوفة - اثنا عشر رجلا - حتى إذا كانوا بوادي السباع لقيهم رجل من موالي بني أسد، .. فأتى ابن معقل فأخبره، فاتبعهم فأدركهم بخفان- وهي على أربعة فراسخ من القادسية- فقتلهم أجمعين".

وتكمن أهمية هذا الخبر في معرفتنا لجهتي الخروج والوجهة لهؤلاء المقتولين، فهم خرجوا من الكوفة متجهين نحو البصرة في الجنوب، وكان خطُّ سيرِهم بهذه الصورة: (الكوفة – القادسية – العُذيب – وادي السباع – خَفّان) ومنه يتضح أنّ خَفّان تقع على طريق البصرة بعد وادي السباع الذي يقع بعد العُذيب الذي يقع بعد القادسية المعروف موضعها حتى الآن، وأنّ المسافة بين خَفّان والقادسية هي أربعة فراسخ بحسب هذه الرواية الطبرية، وهو ما يعني أنّ بينهما اثنا عشر ميلاً؛ غير أنّه في المطبوع من كتاب المسعودي: (التنبيه والإشراف؛ الصفحة 390 ط. ليدن) ذُكر أنّ المسافة بين خَفَّان والقادسية هي ستة أميال فقط.

وأما بخصوص (وادي السِّباع) الواقع بين القادسية وخفّان - في رواية الطبري – فقد ذكر باسم (وادي السباع)، و(مرج السباع) أيضاً، ففي تاريخ الطبري في ذكر حرب الحجاج مع ابن الأشعث عند (دير الجماجم) قرب الكوفة نجد ما هذا نصّه ملخصاً:

"وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعُذيب، ومنعوه من نزول القادسية، .. ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحَجَّاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم".

فهو هنا سمّاه (وادي السباع)، وذكر ما يؤكد على أنه كان يمرُّ به الطريق القادم من البصرة إلى الكوفة، فإذا صار هذا الطريق بين سواد القادسية والعُذيب، فإنه يصلُ بعد ذلك إلى وادي السباع من جهة الكوفة.

وذكر في (الروض المعطار) في رسم [ البويب ] باسم (مرج السباع) عندما قال عن حرب المثنى مع الفرس:

"فخرج مهران في الجنود يريد الحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباع ما بين القادسية وخفان، فاستبطن فرات بادقلى".

ونلاحظ في هذا الخبر أنّ (وادي السباع) أو (مرج السباع) كان يقع قريباً جداً من خَفّان، وقد دَوَّنَ موزل عام 1915 للميلاد وجود موضع به بحيرة كان يُطلق عليهما مسمى: (أم السّباع)، و(بحيرة أم السباع) يقعان جنوبي شرقيّ الرّحبة (رحبة الكوفة) على مسافة 50 دقيقة للماشي على قدميه، وكان موزل متجهاً من الرّحبة إلى القائم الواقع للغرب من الشنافية بعشرة كيلومترات. (موزل: الفرات الأوسط؛ الصفحة 165 - 166)، وهذا يعني أنّ خَفّان تقع للجنوب من هذه البحيرة قرب القائم الذي كان موزل قاصداً إليه، وهو بالفعل ما نجده واضحاً في نصٍّ لابن الأثير دونه في كتابه (الكامل في التاريخ؛ أحداث سنة 446هـ)، وذلك عندما قال عن حرب نور الدولة دبيس بن مزيد الأسدي مع قبيلة خفاجة في السنة المذكورة، فقال ما هذا ملخصه:

"عبر الفرات من ساعته، وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين، فانهزموا منه ودخلوا البر، .. فتبعهم فلحقهم بخفان، وهو حصن بالبر، فأوقع بهم، .. وحصر خفان ففتحه وخربه، وأراد تخريب القائم به، وهو بناء من آجر وكلس، وصانع عنه صاحبه ربيعة بن مطاع بمال بذله، فتركه وعاد إلى البلاد".

وهذا القائم ذكر البغدادي في رسمه من (مراصد الاطلاع) أنه: 

"بناءٌ قديمٌ بخَفّان فى بَرِّ الكُوْفَةِ يُعرف بهْ".

ولا زالت هذه التسمية – أعني القائم – تُطلق حتى اليوم على قرية وحصنٍ قديم يقعان جنوبي شرقي العُذيب بالقرب من المرقد المسمى الآن بمرقد (عبد الله أبو نجم)، وهو الذي وصفه موزل في كتابه (الفرات الأوسط) كما ذكرتُ قبل قليل، وبالمناسبة، فإنّ هذا الحصن يقع إلى الجنوب من القادسية بثمانية أميال، وكل ما ورد في النصوص المتقدمة التي وضعتها لتحديده هنا تنطبق على هذا الموضع، وهو ما جعلني أرى أنّ القائم هذا هو موضع خفّان التاريخية.

ومما يؤكد هذه النتيجة أيضاً هو ما ورد في رسم [ رحبة ] من (معجم البلدان)؛ حيث جاء فيه عن السكوني قوله في تعديد طرق الحج من الكوفة إلى مكة:

"ومن أراد الغرب دون المغيثة خرج على عيون طف الحجاز فأولها عين الرحبة، وهي من القادسية على ثلاثة أيام – الصحيح ثلاثة أميال -، ثم عين خفية".

فالرحبة معروفة حتى اليوم، وهي تقع شمالي غرب القادسية بـ8 كيلومترات، وهذا يعني أن عين خفية تقع بعدها جنوبيّها أوفي جنوبيّها الغربي، وليس شمالاً أو شرقاً لأن الطريق متجهة نحو الغرب أو الجنوب الغربي، وهو ما يوضح لنا ما ذكره الحموي أيضاً في رسم [ خفان ] عن السكوني نفسه – الذي يبدو أنه تحرف إلى السكري هنا – وهو قوله:

"قال السكري: خفان وخفية أجمتان قريبتان من مسجد سعد بن أبي وقاص بالكوفة".

ومسجد سعد هذا نصَّ الهروي في (الإشارات؛ الصفحة 74 ط. القاهرة 2002م) على أنه يقع في العُذيب.

وعليه تكون عين خفان هي العين القريبة من حصن أو قلعة القائم المذكور، والتي ذكر موزل أنها تقع في الناحية الغربية من القلعة، وأنها تخرج من صخورٍ هناك، ويجري نهرها الذي وصفه بالكبير، فيمرّ إلى جانب القلعة (موزل: الفرات الأوسط؛ الصفحة 171)، وعلى ضوء ذلك يبدو أنّ عين خفيّة هي العين الواقعة في شماليها الغربي بسبعة كيلومترات، وهي العين التي كانت تُسمّى بـ(عين الخويسة) سابقاً، وصار الناس الآن يسمّونها (عين الإمام الحسن).


الخرائط والصور التوضيحية



خارطة مقتبسة عن موقع (Yandex) لعين وقلعة وبلدة القائم التي رجَّحتُ في البحث أنها هي عين خفان.


منبع العين الواقع غربي بلدة القائم وقلعتها؛ كما تبدو في هذه الصورة التي التقطت عام 1915 للميلاد. 

* الصورة ملتقطة بكاميرا الرحالة النمساوي ألويس موزيل، وهي منشورة في كتابه (الفرات الأوسط).


نهر العين وهو يجري من منبعها باتجاه سور قلعة القائم الواضح في يمين الصورة جزءٌ منها.

* الصورة ملتقطة بكاميرا الرحالة النمساوي ألويس موزيل أيضاً، وهي منشورة في كتابه (الفرات الأوسط).




[1] هذا البحثٌ هو عبارة عن حاشية عرّفت فيها بهذا الموضع في تحقيقي لكتاب: (المحفوظ من تاريخ الشريف العابد أخي محسن)؛ حيث أخذتُ على عاتقي التعريف بكل موضع ذكره الشريف العابد في تاريخه المشار إليه، والذي نشرته مؤخراً.

الجمعة، 11 ديسمبر 2020

تؤام البحرانية ذات اللؤلؤ العظيم

 

تُؤَامْ ساحل اللؤلؤ التاريخي الشهير

في شرق الجزيرة العربيـــــــــــــــة


عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي


هذا الاسم من الأسماء المربكة الذي جعل كثيراً من اللغويين والجغرافيين يتخبطون في تعريفه وتصريفه وتحديده، وسبب هذا التخبط هو وجود مكانٍ شهير في عُمان يشبه اسمه اسم هذا الموضع، وهو تُؤاْم الواحة العُمانية الشهيرة المعروفة الآن بـ(البُرَيْمِيّ)، وكذلك وجود موضع ثالث في اليمامة يشبه اسمه اسم هذين الاسمين، وهو تُؤَم أو تُوَم الذي أصبح الآن يُعرف بـ(التُّوَيْم).

وقد ادّى هذا التشابه بين تُؤَام البحرين وتُؤَم اليمامة وتُؤَام عُمان إلى الخلط في تحديد هذه المواضع الثلاثة لدى المؤرخين والجغرافيين القدماء والمحدثين، ولا سيّما بين تُؤَم البحرين وتُؤَام عُمان، وفي حين لا زال الثاني معروفاً لدى الباحثين حتى وإنْ تغيّر اسمه إلى البُريْمي، فإنّ الآخَرَيْن اللذين في اليمامة والبحرين لا يُعرفان عند جمهور الباحثين في المواضع، ولتوضيح هذا الأمر فإنني سوف أسرد كل ما اطلعت عليه من نصوص نثرية وشعرية ذكرت تُؤَاْم البحرين أو ذكرت ما يساعدنا في تحديده التحديد الصحيح.

وأقدم هذه النصوص هو ما ورد في تعريف تُؤَم البحرين مرويّاً عن أحد أكثر الناس خبرة بالجزيرة العربية، وهو الأصمعي، فقد جاء في شرح المفضليات للتبريزي، ثم في شرح قول سويد بن أبي كاهل اليشكري:

كالتُّؤَاْمِيَّةِ إنْ بَاشَـــــــــــرْتَهَا

قَرَّتِ العَيْنُ وطابَ المُضْطَجَعْ

"قال الأصمعي: التُّؤَام: موضع على البحر يكون عنده غَوْصٌ، فأراد: دُرَّةً نسبها إلى ذلك الموضع".[1]

وفي شرح المفضَّليّات لابن الأنباري نجد هذا الكلام منقولاً بنصّه عن الأصمعي؛ باستثناء كلمة "غوص"، فقد كتبها: "الغَوْص" بأل التعريف.[2]

غير أنّ البكري ذكر في رسم [ تؤام ] من (معجم ما استعجم) رواية أخرى منقولة عن الأصمعي بواسطة الأخفش، وجاء فيها قوله:

"تُؤَام: .. قال الأخفش عن الأصمعي: هو موضع بالبحرين، وهو مغاص اللؤلؤ".

وفي مادة [ تؤام ] من لسان العرب نقل ابنُ منظور ذات العبارة عن الأصمعي، ولكنه جاء بـ(تُؤَام) معرفة بالألف واللام، فقال:

"قال الأَصمعي: التُّؤَام موضع بالبحرين مَغاص".

ويلاحظ من الروايات الأربع أنّ اسم هذا الموضع يُنطقُ بأل التعريف وبدونها؛ كما يستفاد منها أنه كان مغاصاً للؤلؤ على البحر كما في روايتي التبريزي وابن الأنباري؛ في حين نصَّت رواية البكري وابن منظور على أنه كان مغاصاً في البحرين، وليس ثمّة فرق كبير لأنّ اللؤلؤ إنما اشتهرت به البحرين دون سواها، وهو كان يُستخرج من سواحلها.

وهكذا نرى نصّاً واضحاً للأصمعي نقله عنه أكثر من مصدر، وكلها ورد فيه النصّ على أنّه كان يوجد في البحرين أو على ساحل البحر – وليس في الداخل – موضعٌ كان يُدعى تُؤَاْم، أو التُّؤام وأنه كان مغاصاً معروفاً يُغاص فيه لاستخراج اللؤلؤ، وأنّ لؤلؤه، ولاسيما الدرُّ منه كان يُضرب به المثل[3]

غير أنّ الذي حصل هو أنّ الشرّاح الذين أتوا بعد الأصمعي عَقّبوا على كلامه بتخطئته، ومنهم تلميذه الحسن بن علي الحرمازي الذي عقَّب على كلام أستاذه الأصمعي وقوله إنّ التؤامية في شعر سويد منسوبة إلى تؤام البحرين بقوله:

"نسَبَهَا إلىْ تُؤَاْم، وهي قَصَبَةُ عُمَان التيْ تليْ السَّاحِل، وقصبتها التي تلي الجبل صُحار".[4]

وقد كفانا الردّ على كلامه أحد من وقف عليه وذكره ابنُ الأنباري ولم يُسمّه، ولكنه ذكر قوله بعد كلام الحرمازي مباشرة، فقال:

"وقال بعضهم ممن يَخْبُر: ليس التُّؤَام[5] على الساحل، وقصبة عُمان صُحار، ومنها إلى تؤام عشرون فرسخاً، وهي[6] مدينة فيها منبر على طرف المفازة التي بينها وبين البحرين".[7]

وهذا الكلام من هذا الرجل المجهول هو عينُ الصَّواب، فتؤام عُمان تبعد عن الساحل أكثر من 70 ميلاً، ومما يتعلق بهذا الأمر أيضاً ما ذكره ابن منظور في مادة [تأم] من لسان العرب؛ حيث قال:

"وتُؤَام؛ مثل تُعَام: مدينة من مدن عُمان يقعُ إليْهَا اللؤلؤ، فيُشْتَرَىْ مِنْ هُنالِك".

والسبب في جعل هؤلاء الأعلام ينسبون اللؤلؤ التؤامي إلى تؤأم عُمان هو أنّها كانت مشهورة جداً ومعروفة لديهم بهذا الرَّسْم أي تُؤَاْم، وظلّت معروفة لزمنٍ طويل حتى عصرنا هذا حيث أصبحت تُسمّى البُريمي، بعكس تُؤَامِ البحرين وتُؤَامِ اليَمَامة اللتين تُكتبان بدون ألِف ممدودة، فإنهما ما كانتا تُعرفان عندهم باستثناء الأصمعي خرِّيْت هذا الشأن وأعلمهم بشئون الجزيرة العربية، ولهذا حاول الأستاذ الجاسر التوفيق بين من تقدّم رأيُهم في أنّ تؤام المذكورة هي تؤام عُمان، وبين ما ورد في نصِّ الأصمعي من أنّ تؤام مغاصٌ في البحرين، وانّ الدُّرَّة التؤامية منسوبة إليه، فقال عنها في رسمها من معجمه:

"أما القول بأنه في البحرين وفي عُمان، فناشئٌ عن كونه واقعاً بينهما"[8]

وهو يعني أنه كان يرى أنهما مكانٌ واحد عنده مع أنه قرأ نصَّ نصر الإسكندري الذي كان واضحاً عندما فَرَّق في كتابه (الأمكنة والمياه والجبال والأنهار) بين تؤام عُمان وتؤام البحرين وتؤام اليمامة، وهو قوله:

"حِبْريْر: .. جبل بتؤام من عمل البحرين"، ثم عَقَّب بقوله مباشرة: "وتؤام أيضاً: ماءٌ باليمامة يشترك فيه عبد القيس والأزد وبنو حنيفة، وتؤام أيضاً: موضعٌ بعُمان"[9]

بل إنّ الشيخ حمد اعترض على ما ذكره نصر في نصّه هذا بأنّ تُؤام ماءٌ باليمامة لعبد القيس والأزد وبني حنيفة بقوله إنّ الذي في اليمامة ليس من منازل هذه القبائل، وأنها من منازل بني تميم، ثم ذكر نصَّين للغذة الأصفهاني وابن الحائك الهمداني حول تحديد تؤام اليمامة التي ذكرها نصر ضمن التؤامات الثلاثة، وسأوردهما هنا لأهميتهما وفائدتهما في البحث عن تؤام البحرين، وسأبدأ بأقدمهما، وهو نصُّ صاحب كتاب (بلاد العرب) الذي أورده ضمن تحديده لمنازل بلعنبر من تميم في وادي الفقي، وأجتزئ منه قوله:

"ولهم: جُلاجِل، ومُعزِل، ثمَّ الرَّوضة – وهي لبلعَنبر أيضاً – ثم البَرْقاء، ثمَّ تُؤَم: لبني حِمّان؛ من سَعْد، وموسوم لقومٍ من حنيفة، وهو بالفقء أيضاً".[10]

وأما نصُّ الهمداني، فهو قوله يذكر منازل وادي الفقي أيضاً:

"ثم تمضي إلى قارة الحازمي، وهي دون قارة العَنْبر، وأنت في النخيل والزروع والآبار طول الوقت، ثم توَمْ، ثم أشِيّ".[11]

فهذان النصّان يذكران موضعاً واحداً كان ماءً معروفاً في وادي الفقي، فسُمّي في نصِّ صاحب كتاب (بلاد العرب): تُؤَم بالواو المهموزة، وسُمِّي في نصّ الهمداني: تُوَم بتسهيل همزة الواو، وكلاهما على وزن فُعَل، إلا أنّه في المطبوع من ديوان الحطيئة العبسي كُتب هذا الموضع: تَوْءَم على وزن فَوْعَل، وذلك في قوله:

عَفَا تَوْءَمٌ من أهله فجلاجُـــــــله

فرُدَّت على الحيّ الجميعِ جمائله

ولكنّ مطلع هذا البيت يُمكن أنْ يُقرأ أيضاً:

عَفا تُؤَمٌ مِنْ أهْلِهِ وجُلاجُــــــــلُه

كما يمكن أن يُقرأ:

عَفا تُوَمٌ من أهله، فجلاجُـــــــله

فالأمر راجع إلى كتاب نسخ ديوانه، ومدى ثقافتهم ومعرفتهم بهذه المواضع؛ على أنه حتى ولو كان اسمُ هذا الموضع هو: تَوْءَم كما في المطبوع من شعر الحطيئة، فإنّ لفظة تَوْءَم عندما تسهّل من الهمز، فإنها تُنطق تَوَم، فهي ذاتها الواردة في نصّ الهمداني باستثناء أنّ تلك مضمومة التاء، وهذه مفتوحتها، وينحصر الخلاف اللغوي كله بخصوص موضع اليمامة هذا على أنه هل كان يُنطق تُؤَم بالهمز أو تُوَم بالتسهيل كما في النصّين المذكورين، أو أنه كان يُنطق تَوْءَم كما كتب في شعر الحطيئة؟، وأنا أرى أنّ كلي الاسمين تَوْءَم وتُؤَاْم هما بذات المعنى اللهم إلا أنّ توءم تكون للمفرد وتُؤام تكون للجمع.

ثم إنّه من حسن الحظ بخصوص هذا الموضع هو أنه ما زال معروفاً حتى الآن؛ بل أصبح بلدة عامرة، ولكنّ الاسم صُغِّر إلى: تُوَيْم، أو تُؤَيْم عند بعض من يهوى الهمز، ويُعرّف هذا الاسم، فيقال التُّوَيْم، أو التُّؤَيْم، وهذا التصغير لا يكون إلا لتُوَم أو تُؤَم على ذات الترتيب - وهما الواردان في نصّي الأصفهاني والهمداني - ولا يكون لتَوْءَم الوارد في المطبوع من شعر الأعشىى لأنّ تَوْءَم هذه مُصغرُها: تُوَيْئم بالهمز، أو تُوَيّم بالتسهيل مع تشديد الياء باعتبارها يائين أولاهما أصلية والأخرى بدل الهمزة، والمسموع في اسم هذا البلد الآن هو التُّوَيْمُ مُسَهَّلَةٌ ومُخَفَّفَة.

وأما نفي الشيخ حمد – رحمه الله – لما قاله نصر الإسكندري من أنّ تؤام اليمامة هذا كان لبني حنيفة والأزد وعبد القيس، فأنا لا أرى غرابة في ذلك، فهذه المياه كانت تتقاتل عليها القبائل، وكثير من المياه انتقل من قبيلة إلى قبيلة على مرّ الدهور، وقد قرن صاحب (بلاد العرب) تُؤم بماءٍ سمّاه موسوم كما رأينا في النصّ، وهو منزل يقع قريباً من تُؤام، أو ملاصقاً له لأنه سبقه بحرف الجر (و)، فعطفه على تؤام في حين كان يستخدم حرف الجر (ثم) للمياه السابقة، وقال عن موسوم هذا إنه كان لبني حنيفة، فهذا مُقَوٍّ لقول نصر عن تؤام أنه كان ماءً مشتركاً لبني حنيفة والأزد وعبد القيس، ومن غير المستغرب أن يكون لحنيفة بطنان حليفان من عبد القيس والأزد كانوا معهم في اليمامة، ثم أخذته منهم بعد ذلك تميم عندما اشتد عودها في نجد، وأخذت الكثير من المواضع والبلدان في اليمامة والبحرين.

وإذا، فقد عرفنا الآن تُؤَام اليمامة الذي ذكره نصر، وأنّ صحة النطق فيه هو: تُؤَم أو تُوَم، وأنه هو البلدة المعروفة الآن بـ(التُّوَيْم)، وكنّا قد عرفنا تؤام عُمَان الذي يُعرف الآن بـ(البُرَيْميّ)، وبقي أن نعرف أين يقع تُؤَامُ البحرين، ولاسيما بعد أن بدأ يثبت لنا صحة كلام نصر الإسكندري عن وجود ثلاثة مواضع تحمل اسم تؤام - أو شبهه – وقد عرفنا العُماني واليمامي منها، وبقي البحراني، وبداية أودُّ أن أوضح أنّ كلامَ نصر عن هذه المواضع الثلاثة هو ما جعل ياقوت الحموي لا يتردد في تصحيح قول من قال من شراح شعر سويد بأنّ الدُّرّة التؤاميّة التي ذكرها في شعره هي منسوبة إلى تُؤام عُمان، فقال في هذا الرسم من معجمه البلداني نقلاً عن بعض مصادره:

"تُؤَاْمُ – بالضمِّ، ثم فتح الهمزة؛ بوزن غُلاْم –: اسمُ قصبة عُمان مما يلي الساحل .. يُنسب إليها الدُّرّ".

ثم ذكر بيتي سويد المتقدمين، ثم تحدث عن اشتقاقاتها اللغوية؛ إلى أنْ قال:

"وقال نصر: تؤام قرية بعمان بها منبر لبني سامة، وتؤام: موضع باليمامة يشترك به عبد القيس والأزد وبنو حنيفة، وتؤام موضع بالبحرين".

وعَقَّبَ بعد نقل كلام نصر مباشرة بقوله:

"كذا في كتاب نصر، وما أظنُّ الذي بالبحرين إلا هو الذي يُنسبُ إليه اللؤلؤ لأنّ عُمان لا لؤلؤ بها".

وهذا الكلام الأخير الذي قاله ياقوت هو عين الصَّواب، فاللؤلؤ كان يُستخرج من سواحل البحرين وهي المشهورة باستخراجه من سواحلها منذ أقدم الأزمان، وياقوت يعرف ذلك جيداً لأنه خبير بالخليج الفارسي ومدنه وقراه وسواحله وشئونه، وإنّه لأمر يدعو للعجب قول بعض البلدانيين بأنّ تؤامَ عُمَان هي المنسوب إليها الدرّ؟!، أو أنَّ تُجَّارَ اللؤلؤ كانوا يقصدونها لبيع وشراء اللؤلؤ فيها، وهي عبارة عن واحة تقع في وسط صحراء عُمان العاتية؟!، ويفصلها عن ساحل الخليج الفارسي - موطن الدُّرّ – مسافة كبيرة للوصول إليها تصل إلى 70 ميلاً وأكثر؛ علماً أنّ الوصول إليها يكون عبر طرق صحراوية ورملية مخيفة لا ماء فيها، ثم إنّ سكانها ومن يكتنفونها كانوا من قبائل البادية المشهورة بالسلب والنَّهب، ولطالما عانى منهم سكان الداخل من عمان فضلاً عن غيرهم، فما الذي يجبر تجار اللؤلؤ الذين كانوا يتحرّون الأمن والأمان لأنفسهم وما يحملون من كنوز ثمينة كي يقصدونها دوناً عن غيرها من المدن الساحلية لبيع وشراء اللؤلؤ، خصوصاً وأنه يوجد على الساحل الشرقي لجزيرة العرب المطل على خليج فارس – وهو مخزن اللؤلؤ ومركزه – عدة مدن وقرى ومواضع تصلح لهذه المهمة، وهو ما كان يُشاهد لدى تجار اللؤلؤ في عصرنا الحديث - قبل أن تنتهي هذه التجارة – حيث كان تجار اللؤلؤ يشترونه ويبيعونه في بلدات معروفة مأهولة على الساحل كجزيرة أوال، والقطيف، وقطر، والكويت، وغيرها من بلدات إقليم البحرين القديمة والحديثة، وأيضاً فإنّ الدرَّ الأشهر عند العرب وتجار اللؤلؤ قديماً وحديثاً إنما هو دُرُّ البحرين التاريخية، فهو الأشهر والأجمل الأجود والأفضل لا درَّ عُمان، ولهذا قال البيروني مقولته الشهيرة في كتابه (الجماهر) عن الدُّرّ البحراني الذي سمّاه نجماً لأنه يشبه النجم في إضائته ولمعانه:

"إنَّ النَّجْم البحْرَيْنيَّ إذا تَدَحْرَج[12] وبَلَغَ غايتَهُ مِن محَاسِن الصِّفَات واتَّزَنَ[13] نِصْفَ مِثقَالٍ، فهْوَ دُرَّة، وقيمتُها ألفُ دينار، ولَيس لما بَلَغَ مِثقالين منها قيمةٌ بالحقيقة، فاجعلها ما شئت ولا حَرَجْ".[14]

وعلى ذلك، فإنّه لا يمكننا إلا التسليم بأنّه كان في البحرين بلدة أو موضع ساحلي اسمه تُؤَامٌ كما رسمه نصر، وكما هو اسم الموضع الذي في عُمَان، أو تُؤَمٌ كما رأينا في اسم الموضع الذي في اليمامة، وأنّ هذا الموضع البحراني هو الذي يُنسب إليه الدرُّ التؤاميّ، فهل ورد في المصادر التاريخية موضع يُسمّى بـ(تؤام) أو قريباً من هذا الاسم في منطقة البحرين التاريخية غير كتاب نصر الإسكندري يمكن لنا أن نحدد بواسطته مكان هذا الموضع؟، والجواب هو نعم، فقد ذكره المخبَّل السعدي أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم - وهم كانوا من سكان البحرين بطولها وعرضها – في شعر له ذكره البكري في رسم [بلبول] من معجمه البلداني، ونصُّ ما قاله هو ما يلي:

"بُلْبُوْلُ – بضمّ أوله، وببائين ولامين على وزن فُعْلُول -: موضع من شِقِّ البحرين؛ قال المخبل:

غشيتُ لليلى دِمْنةً لم تكلّـــــمِ

ببُلْبُوْلَ فالأجراعِ أجراع تَوْءَمِ"

ثم عقَّبَ قائلاً:

"وتَوْءَمُ مُحَدّدٌ في موضِعِه".[15]

وعند الرجوع إلى الموضع الذي ينبغي أن يذكر فيه (تَوْءَم) من كتابه هذا وجدته قد ذكر رسم (تُؤاْم) فقط، ولكنه ذكر ضمن الحديث عنه اختلاف اللغويين في كتابته، فذكر أنّ الأخفش روى عن الأصمعي قراءته بالرسم الثاني، وهو تُؤام على وزن فُعَال، وقد ذكرتُ ذلك في أول هذا البحث، ولكن نقل البكري أيضاً عن آخرين لم يذكر أسمائهم أنهم ينطقون هذا الاسم بالرسم الأول على وزن فَوْعَل أي كما ورد في شعر المخبّل السعدي، ولم أجده قد فَرَّق بينهما إلا في الرسم فقط، وأرى أنّ تَوْءَم الذي ذكره المفجع في شعره هو تُؤَام ذاته، ولكنه جاء بصيغة المفرد منه اضطراراً لسلامة وزن البيت.

وثمّة أمر آخر ينبغي لنا أن نلاحظه بخصوص هذا الاسم، وهو أنّ السكان القدماء لساحل شرقي الجزيرة العربية كانوا ينفرون من الهمز إلا قلة قليلة منهم، ولهذا فإنّ كلّ اسمِ موضعٍ يَرِدُ بالهمزة ينبغي أن يُلتفت إلى أنّ السكان قد ينطقونه بتسهيلها، فهم مثلاً يقولون: (فاج)، أو (ثاج)، وليس (ثأج) في اسم البلدة المعروفة في الستار (وادي المياه الآن)، ويقولون: (فار) وليس (فأر)، و(فواد) وليس (فؤاد)، و(الحَسَا) و(العَبا) وليس: (الأحساء)، و(الأعباء)، ويُقاس على ذلك اسم هذا الموضع المكتوب في المصادر التاريخية: تُؤَاْم، فمن المؤكد أن سكان المنطقة القدماء ينطقونه: (تُوَاْم) هَرَباً من همزه، وبالتالي فإننا إذا أردنا أن نبحث في المُسمَّيات الجغرافية المعروفة لنا الآن في المنطقة عن (تُؤَاْم) و(تُؤَم)، فينبغي أن نبحث عن (تُوَاْم) و(تُوَم)، وشعر المخبل المارّ بنا قبل قليل هو نصٌّ صريح في أنه كان يوجد في البحرين بالقرب من بُلبُول موضع يُعرف بـ(أجراع تَوْءَم)، وتوءم هو مفرد تُؤام التي نتحدث عنها، فيبدو أنّ المخبل قد أفرده اضطراراً لوزن الشعر، وبُلْبُوْل - الذي ورد في شعر المخبَّل ما يوحي بقربه من توءم وأجراعه - معروف حتى وقتنا هذا، وهو يقع في منتصف المسافة بين واحة عينين (الجبيل الآن)، والخفجي، وكانت تقام فيه سوقٌ مشهودة أزمان الغوص على اللؤلؤ، كما كان منتجعاً للبادية كثير المياه،[16] فهل يوجد بالقرب من بُلبُوْل موضع يحمل اسم تُؤَاْم أو تُؤَم أو تُوَاْم أو تُوَم بالهمز أو بدون همز حتى الآن؟.

الجواب هو نعم، فإلى الغرب من الخفجي الواقعة شمالي بُلبُول يوجد موضع يُطلقُ عليه في الخرائط الإنجليزية اسم: (ADĀYIM AT TUWAM)، ويقرأ باللغة العربية: (عَدَاْيِمُ التُّوَام)، أو (عَدَايِم التُّوَم)،[17] وهو كما نرى اسمٌ مُركّب من: (عَدَايم)، وهي الرمال الكثيرة التي عادة ما تكون محاطة بسباخ أو غير ذلك من ظواهر جغرافية، ولو تمعنا في اسم (التُّوَاْم) أو (التُّوَم) المضاف إليه هذه العَدَايم، فسنجد أنه مُسَهَّل (التُّؤَاْم)، أو (التُّؤَم) الموضع البحراني الشهير بجمال لؤلؤه، ومما يقوّي هذه النتيجة هو أنّ هذا الاسم لا زال محتفظاً باسمه المعرَّف بـ(ألّ) التعريف، وقد مرّ بنا في نصوص التبريزي وابن الأنباري وابن منظور المتقدمة أنّ المغاص البحراني المنسوب إليه اللؤلؤ التؤامي يُكتب أحياناً بأل التعريف؛ أي (التُؤاْمْ)، أو (التُّوَاْمْ).

وأمر آخرٌ يقوّي ذلك، وهو أنّ هذا الموضع تُضاف إليه عدايم رملية كما يدلُّ عليه اسمه، وهو مشابه لما ورد في شعر المخبل السعدي حين ذكر (أجْرَاْعَ تَوْءَم)، والأجْرَاْعُ: جمع جَرَع، والجَرَع: من معانيها الرملة السهلة، والأرض ذات الحزونة التي تشاكل الرّمل، وقيل هي الدعص الذي لا ينبت وهو كله مقارب لمعنى العدامة، وعادة إذا نُسبت جهة أو منطقة رملية أو جبلية إلى مكان، فهو يدلُّ على أهمية هذا المكان، ويدلُّ ذلك أيضاً على كبر منطقة وحدود تُوَام المنسوبة إليه هذه العَدايم، وأيضاً بخصوص جبل حِبْرِيْر الذي ذكر نصر أنه يقع في تؤام البحرين، فهذا الجبل ذكره ساكن هذه المنطقة؛ العجّاج السعدي التميمي في شعره، وسمّاه بـ(أبي حبرير)، وذلك في قوله:

قَرمُ هِجانٍ هَمَّ بِالفُــــدورِ

يَمشي بأنقاءِ أَبي حِبريرِ

فواضحٌ أيضاً من قول العجاج أنّ حبرير هذا كان يوجد به أنقاء؛ أي كثبان رمال، فهي الأجراع في شعر ابن عمه المخبل، وهي العدايم عدايم التُّوَام الآن التي يوجد عندها جبيل صغير يُسمّى (ضُليْع المعاشي)، فيبدو أنه هو المعني بـ(جبل حِبرير).

وإذاً، فأنا أرى الآن بوضوح أنّ عَدَايم التُّوَام أو التُّوَم هذه هي أجراع توءم أو تؤام البحرين، فهي تقع في جهة بُلبُول المذكور معها في الشعر، ثم إنها في مكان كان مشهوراً بكثرة مواضع الغوص حوله، فإلى الجنوب منه يقع المغاص المنسوب إلى بُلْبُوْل الذي تقدم الحديث عنه أنه كان سوقاً مشهودة أيام الغوص على اللؤلؤ، وفي كتاب (الجواهر) لابن ماسويه سمّاه: بُلبُل، وقال عنه إنه كان المغاص الأعظم في وقته،[18] وإلى الشمال منه يقع مغاص نويصيب، وفي جنوبيّه الشرقي تقع الخفقي (الخفجي)؛[19] التي كانت هي الأخرى أحد مغاصات العَدَان المشهورة،[20] وهو أقرب المغاصات إلى عدايم التوام بحيث إن خورها الممتد إلى الداخل بأربعة أميال لا يبعد عن عدايم التوام إلا بذات المسافة.


الصورة الموضحة

خارطة مقتبسة عن أطلس (المنطقة الشرقية من الألف إلي الياء)؛ الذي نشره مكتب زكي محمد علي الفارسي عام 1991م، ويبدو فيها موضع (عدايم التوام) شماليّ غربيّ الخفجي (الخفقي)، وقد كُتبت الواو في (التوام) بدون همز ، جرياً على ما ينطقه أهالي المنطقة، وقد أوضحتُ في البحث أنّ تُّوَم هذه التي تُنسب إليها هذه العدايم هي تؤام التاريخية التي كانت مشهورة بلؤلؤها في التاريخ والأدب العربيين 


 الهوامش والحواشي



[1]  يحيى بن علي بن محمد الشيباني = الخطيب التبريزي: شرح اختيارات المفضل؛ تحقيق: الدكتور فخر الدين قباوة (بيروت: دار الكتب العلمية 1987م)؛ ج2: 892.

[2]  المفضل بن محمد الضبي: ديوان المفضليات شرح محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري (بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيين 1920م)؛ الصفحة 396.

[3]  وهذا هو مراد سويد بن أبي كاهل اليشكري في قوله:

كالتؤامية إن باشرتها                قرَّت العينُ وطاب المضطجع

فهو يريد بالتؤامية الدرّة التؤامية التي نسبها إلى تؤام كما قال الأصمعي، وليس كما قاله بعض شراح شعر سويد أنه أراد بالتؤامية امرأة، ومباشرتها: لصق جسمه بجسمها.

[4]  المفضل بن محمد الضبي: ديوان المفضليات شرح محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري (بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيين 1920م)؛ الصفحة 396.

[5]  يعني تؤام عُمان.

[6]  الضمير يعود على تؤام عُمان.

[7]  المفضل بن محمد الضبي: ديوان المفضليات شرح محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري (بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيين 1920م)؛ الصفحة 396.

[8]  حمد الجاسر: المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية / المنطقة الشرقية (البحرين قديماً) (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر؛ دت)، ج1: 294.

[9] نصر بن عبد الرحمن الإسكندري: الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوها المذكورة في الأخبار والأشعار؛ تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دارة الملك عبد العزيز 2004م)؛ ج1: 449.

[10]  الحسن بن عبد الله الأصفهاني = لغذة الأصفهاني: بلاد العرب؛ تحقيق: حمد الجاسر وصالح العلي (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر دت) الصفحتان: 262 – 263.

[11]  الحسن بن أحمد الهمداني: صفة جزيرة العرب؛ (ليدن: مطبعة بريل 1891م)؛ الصفحة: 142.

[12] تدحرج أي استدار، ويعني به التام الاستدارة.

[13] أي بلغ وزنه هذا المقدار الذي سيذكره.

[14] محمد بن أحمد الخوارزمي = أبو الريحان البيروني: الجماهر في معرفة الجواهر؛ تحقيق فرتيز كرنكو (حيدر أباد الدكن: دائرة المعارف العثمانية 1936م) الصفحة 129.

[15]  عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع؛ تحقيق مصطفى السقا (بيروت: عالم الكتب 1983م)؛ ج1: 272.

[16]  حمد الجاسر: المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية / المنطقة الشرقية (البحرين قديماً) (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر؛ دت)؛ ج1: 241.

[17]  تقع عدايم التُّوَام هذه عند الإحداثيات:

28° 26' 25.0" N 48° 25' 00.0" E

[18]  يوحنا بن ماسويه الخوزي: الجواهر وصفاتها (إيران: مؤسسة مطالعات 1388هـ)؛ الصفحة: 37

[19]  ينطقها الناس الآن بالرسم الثاني أي الخفجي، ولكنها كُتبت في مصادر أقدم بالرسم الأول الخفقي، ومن ذلك كتاب (مجاري الهداية) للربان راشد بن فاضل البن علي (انظر: الصفحة: 4 من طبعة المنامة 1341هـ)، وكذلك كتب اسمها الخافقي في خارطة تركية قديمة

[20]  راشد بن فاضل البن علي: مجاري الهداية (المنامة: مطبعة المنامة 1341هـ)؛ الصفحة: 4.