تحقيق ما ورد في كتاب (مدينة الحديث) للسيد نعمة الله الجزائري
عن معمر بن الغوث السنبسي
إنّ الجملة التي
أثارت الإشكال هي التي وردت في الصفحة 174 من كتاب (مدينة الحديث؛ الجواهر الغوالي في شرح عوالي اللئالي) للسيد
نعمة الله الجزائري المتوفى في 1112هـ، وهذه الجملة يقول نصها بعد ذكر معمر
السنبسي:
"في الحاشية: منسوب إلى قبيلة يُقال لها سنابس يسكنون
البحرين".
وأول ما يلاحظ في هذا النصّ هو وجود اضطراب واضح، فهو عندما يقول كاتب
هذا النص إن السنبسي "منسوب إلى قبيلة"، فإن صحة وسلامة النطق يفرضان
عليه أن يقول بعد ذلك: "تسكن البحرين"؛ لا أن يقول: "يسكنون
البحرين"، وهنا يجب أن نلتفت إلى ما ذكره المحققان في الحاشية عند موضع
الجملة الأخيرة، فقد ذكرا أن الجملة كتبت في نسخة أخرى - رمزا لها بالحرف (ب) – بهذه
الصورة:
"في الحاشية: منسوب إلى قبيلة يُقال لها سنابس في البحرين".
فإذا كانت هذا القراءة هي القراءة الصحيحة التي كتبها صاحب النص،
فبالإمكان حينها أن يقع ما يخشاه الباحثون والمحققون في مثل هذا النوع من النصوص، وهو وقوع التحريف أو التصحيف فيه، فكلمة (قبيلة) في هذا النص من الجائز أن تكون قد
تحرَّفت عن كلمة (بلدة)، وعندها يكون صحة الجملة كما يلي:
"في الحاشية منسوب إلى بلدة يُقال لها سنابس في البحرين".
وبهذا الرأي - إن صح - ينتهي الإشكال، ويكون (السنبسي) نسبة إلى سنابس
الاسم الذي تحمله بلدتان في البحرين الكبرى، والتي توجد بعض الوثائق المحلية التي تنسب إليهما أو إلى إحداهما بلفظ (السنبسي).
وأما إذا كانت قراءة نسخة الأصل الذي اختاره المحققان للكتاب هي
القراءة الصحيحة، وأنّ سنابس هي قبيلة كانت تسكن البحرين، وأنها هي التي ينسب
إليها معمر بن الغوث السنبسي، فإنّ البحث حينها ينحصر حول تساؤلين اثنين:
الأول: هل كان يوجد في البحرين قديماً قبيلة كانت تسمى (سنابس)،
والنسبة إليها سنبسي.؟
الثاني: هل الراوي معمر بن الغوث السنبسي هو من هذه القبيلة،
أو يُنسب إليها؟
وسأبدأ كلامي بمحاولة الإجابة على السؤال الثاني، فالراوي معمر بن الغوث
السنبسي حسب ما يُفهم من رواية ذكرت في البحار هو من رجال القرن السابع الهجري، فقد
ذكر في هذه الرواية دخوله الحلة السيفية قبل سقوط بغداد بسنتين أي إن دخوله للحلة
كان في العام 654هـ، وإن كانت الرواية التي تروى عنه تفيد أنه كان يُعرف نفسه بأنه
كان غلاماً للإمام الحسن العسكري!! وأنه شهد ولادة الإمام المهدي!! أي إنه وفق هذه
الرواية يكون قد عاش 400 سنة أو أكثر – وهو أمرٌ مربك تاريخياً – إلا أنني سأتغاضى
عن هذا الآن، وأقف عند قوله إنه كان غلاماً للإمام العسكري، وهو يعني أنه لم يكن
عربياً، وعليه فالأقرب أنه كان مولى لقبيلة سنبس الطائية الشهيرة الذين كانوا
يسمون أيضاً (السنابسة) ، فكانت بطون هذه القبيلة الطائية في القرون السادس
والسابع والثامن الهجرية متوزعة بين العراق والشام ومصر، فقد ذكر الحمداني أنهم
كانوا منتشرين في بطائح العراق جنوب العراق (قلائد الجمان؛ ص87)؛ كما سجل ابن
العديم في (بغية الطلب) وجودهم في حلب، وذكر غيره من المؤرخين وجودهم في جنوب فلسطين بمنطقتي الرملة والداروم (المقريزي؛
اتعاظ الحنفا ج2: 220)، ومن هاتين المنطقتين استقدمهم الفاطميون في منتصف القرن الخامس
الهجري إلى مصر عند قيام ثورة بني قرة الهلاليين على الدولة الفاطمية، فكان
للسنابسة دورٌ كبير في إخماد ثورة القريين.
ولكثرة تواجد هذه القبيلة في جنوب
العراق وبلاد الشام، فقد شهدت القرون السادس والسابع والثامن تدوين عدة أعلام
يُطلق عليهم (السنبسي) نسبة إليهم؛ منهم شعراء كثر ومحدثون وأدباء ورؤساء، وغير
ذلك، ففي القرن الثامن الهجري ترجم ابن حجر (في
الدرر الكامنة) لمن أسماه بأبي بكر بن أحمد بن برق السنبسي، وذكر
أنه كان أمير عشرة بدمشق وأنه مات في شعبان سنة 709هـ، وأما في العراق فكان من الملاحظ أنه كان يوجد
في الحلة وما حولها أكثر من علم ينتمون إلى (سنبس) أو ينعتون بـ(السنبسي)، ومنهم:
* محمد بن خليفة بن حسين السنبسي
شاعر سيف الدولة الأسدي في الحلة، وهو من رجالات القرن السادس الهجري (توفي
515هـ).
* محمد بن سلطان بن خليفة أبو عبد الله السنبسي
الحلي المتوفى عام 588هـ.
* علي بن محمد السنبسي شاعر
مدح الخليفة المستظهر العباسي في القرن السادس الهجري.
صَفِيُّ الدِّين الحِلِّيْ السِّنْبِسِيّ الشاعر المشهور، وهو من
رجالات القرن السابع الهجري.
وهؤلاء كلهم سنبسيون طائيون، وكلهم شيعة أيضاً؛ بل إن سنبس الطائية يستشف من
اختيار الفاطميين لهم لمحاربة الهلاليين الذين ثاروا عليهم بمصر يستشف من ذلك أنهم
كانوا يتشيعون، وقد أسكنهم الفاطميون بعد استقدامهم لمصر في بلاد البحيرة (البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب؛ ص9)،
ولذلك صار يطلق عليهم لاحقاً مسمى (سنابسة البحيرة)، ومن الجائز أن تتحرف البحيرة إلى البحرين
بسهولة، فليلتفت إلى هذ أيضاً.
وعليه فإنّ معمر بن الغوث السنبسي الذي دخل الحلة في القرن السابع
الهجري لا ينبغي أن تنصرف نسبته (السنبسي) إلى غير قبيلة سنبس الطائية إلا بدليل
ناهض.
وأعود الآن للحديث عن التساؤل الأول، وهو هل كان يوجد في البحرين قبيلة
تدعى (سنابس) كما ورد في نص كتاب (مدينة الحديث) أعلاه؟.
من خلال قراءتي وتتبعي لم أجد فيما قرأت أو اطلعت عليه ما يفيد بوجود
قبيلة في البحرين تحمل اسم (سنابس) أو (سنبس) أو حتى (سنابسة)؛ نعم ذكر في التاريخ
أنّ بطوناً من قبائل طي قصدت البحرين أيام الدولة العيونية لمحاربة هذه الدولة
والبطون العُقيلية التي كانت تسيطر على بادية البحرين بقصد طردهم منها واحتلالها
من قبلهم كما ذكر ذلك بالتفصيل في شرح الديوان المقربي مما يعني أنه كانت لقبيلة
طي وبطونها طمع في ملك البحرين، ولكن الذين غزوا البحرين هم قبائل آل فضل وعُنين
من طيّ، ولم يذكر أنه كان معهم بنو سنبس، وإن كان ذلك لا يمنع أن يكون معهم منهم، فهم
كلهم من قبيلة طي في النهاية، وقد ذكر القلقشندي في (قلائد الجمان) أنّ آل فضل كان
ينضم إليهم طائفة من بني سنبس، ومن يدري فربما قدموا معهم في هذه الغزوة
البحرانية أو غيرها إلى البحرين وتخلف منهم قوم فيها، وهو ما يؤيده قول المغيري في كتابه (المنتخب في ذكر نسب قبائل العرب) إنّ من بطون سنبس بنو رميح القبيلة المعروفة في البحرين وقطر؛ يقال
للواحد منهم (الرميحي)؛ كما ذكر الحمداني أن من بطون سنبس الطائية الخزاعل،
والعبيد، وذكر عن الخزاعل أنهم كانوا سادة بني سنبس في العراق ومصر في وقته (القرن
السابع الهجري)، والخزاعل هؤلاء هم الذين كونوا لهم دولة في جنوب العراق بعد ذلك
كما هو معروف، وإن كان من المهتمين بالأنساب من نسبهم إلى خزاعة اعتماداً على
تشابه الاسمين الخزاعل والخزاعيين إلا أنّ العزاوي فند انتسابهم إلى خزاعة، وأكد
انتسابهم إلى السنابسة من طيّ.
وملخص الأمر هو أننا لا نملك دليلاً ناهضاً على أنه كان يوجد في
البحرين في الأوقات المتقدمة قبيلة أو بطنٌ يقال لهم (سنابس) أو (سنابسة)، ولكننا
نعرف أن الجهل بالشيء لا يفيد العدم، وبعض القرائن التي قدمتها قد تقوي وجود قبيلة
أو جماعة أو بطن كان يقال لهم (السنابس) نسبة إلى (سنبس) الطائية، ولكن من
المستبعد أن يكون معمر بن الغوث السنبسي منهم، فهذا الرجل يكاد يكون نكرة، ومسألة
عمره الذي أناف على القرون الأربعة يزيد الفكر العلمي توجساً حتى من مجرد القول
بوجوده، والخبر الوحيد الذي ذكر عنه يفيد أنه كان في العراق، وأنه سكن الحلة منها،
وليس لدينا من دليل على أنه من البحرين، ثم من قبيلة منها تدعى (سنابس) إلا هذا
النص المذكور في كتاب (مدينة الحديث) للسيد نعمة الله الجزائري المتوفى في القرن
الثاني عشر، والذي يعلق فيه على كتاب لابن أبي جمهور من أهالي القرن التاسع
الهجري.
ويبقى البحث مستمراً لمن أحب.