الاثنين، 15 أغسطس 2016

الهفوف عاصمة الأحساء الأخيرة

الهفوف عاصمة الأحساء الأخيرة

الهُفُوْف: هي - كما يُسمع من كبار السنّ من أهل الأحساء - هَاءٌ مضمومة تليها فاءٌ مخفّفة مضمومة أيضاً، ثم واوٌ ساكنة تليها فاءٌ أخرى وهكذا وردت في شعر ابن معتوق الموسوي في القرن الحادي عشر الهجري، ومنهم مَنْ ينطقها بتشديد الفاء الأولى، ويبدو أنّ هذا هو الأصل فيها ثمّ خُفِّفت، فقد وردتْ بفاءٍ مشدّدة في شعر شاعر قطيفي من القرن الثاني عشر الهجري يُدعى علي بن محمد بن حبيب الخطي، وذلك في بيت شعرٍ أضحى مشهوراً عند أدباء ومثقفي المنطقة، وهو الذي يقول فيه:[1]

مَهْلاً مُهَفْهِفَةَ الهُفُّوْفِ مِنْ هَجَرِ



أرَنَّةُ الصَّوْتِ ذِيْ أمْ نغمةُ الوَتَرِ

وهناك تسمية أخرى لهذه المدينة، وهي (الهُفْهُوف) التي لا يستخدمها الأهالي الآن، ولكن أشار إليها بعض الكتاب والباحثين من العرب وغيرهم، وأولهم - حسب اطلاعي - هو الدخيل[2]، ثم فيدال[3]، وبعدهما ابن عبد القادر[4]، ووافقه عليه الجاسر في تذييله على كتابه التحفة مستشهداً ببيت ابن حبيب الخطي هذا، ولكن بعد استبدال كلمة (الهُفُّوف) – المشدّدة – بكلمة (الهُفْهُوف)، ويبدو أنّ الذي جعله يقول بذلك هو ظنّه بأنّ حرف الفاء في كلمة (الهُفُّوْف) الواردة في بيت ابن حبيب الخطي كانت مخفّفة، وبالتالي فإنَّ وزن البيت ينكسر بعكس لو قُرئت بتشديد الفاء وهو الصحيح لأنّ هذا البيت أقدم من ذكره– بحسب اطلاعي – هو الشيخ يوسف بن أحمد آل عصفور البحراني - المتوفى عام 1186هـ - في كشكوله، وعنه نقله الشيخ علي البلادي البحراني في أنوار البدرين، وكلاهما كتبها الهفوف بهاء واحدة وفاءٍ مشدّدة، ولكن لأنّ المطابع لا تهتم بالتشكيل غالباً، فإنها تكتبها من دون شدّة على الفاء، ومن هنا جاء اللبس في القراءة، وعلى العُموم، فتسمية الهُفْهُوْف هي تسمية عربية صحيحة أيضاً غير أنني أرجّحُ أنّ التسمية القديمة لدى السكّان الأصليين هي الهُفُّوْف، ولكن نظراً لكون هذه المدينة محطة هجرة واستقطاب للقبائل العربية القادمة إليها من داخل الجزيرة العربية، والتي استوطنت أسرٌ وعوائل كثيرة منها لمدينة الهفوف، وأصبحوا من ذوي الشأن فيها، فإنني أرى أنّ هذه الأسر والعوائل النجدية الأصل لم تكن تستسيغ نطق الهُفُّوْف بتشديد الفاء فأبدلتها إلى الهفهوف التي كانت مستساغة في لسانهم أكثر كما أشار إلى ذلك فيدال.[5].

وأياً كان الأمر، فمن الواضح أنّ (الهُفُّوْف) و(الهُفْهُوف) مشتقتان من لفظتي (الهفَّاف) و (الهفْهَافَة)، وقد جاء في لسان العرب:

"ريح هَفّافة وهفهافة: سريعة المَرّ، وهَفَّت تَهِفُّ هَفّاً وهَفِيفاً إذا سمعتَ صوتَ هُبوبها، وفي حديث علي، كرَّم اللّه وجهه، في تفسير السَّكِينة: هي ريح هَفّافة أَي سريعة المُرور في هبوبها، والريح الهفّافة: الساكنة الطيبة".[6]
وإنما أطلت في التعريف اللغوي هذا لترجيحي أنّ اسم الهفوف هو مشتق لغوي يعني المكان ذي الهواء الطيب السريع المرور، ولا غرابة في ذلك، فقد كانت الهفوف تقع بين حدبتين صخريتين إحداهما من الغرب، والأخرى من الشرق والشمال الشرقي، فكان ذلك بمثابة القلمة التي يمر من خلالها الهواء محدثاً تلطيفاً لحرارة الجو، وكان هذا عموماً هو ما جعل الكثير من سكان الواحة والوافدين إليها يفضلون السكن في هذا المكان.
متى نشأت مدينة الهُفوف
إنّ المراد من هذا العنوان هو معرفة الزمن الذي أطلق مسمى الهفوف على الموضع المعروف به الآن في الأحساء، والذي هو الآن عاصمتها الأولى، وينبغي التفريق بقوّة هنا بين تاريخ المكان وتاريخ التسمية، فالمكان الذي يُطلق عليه اسم الهفوف لا ريب أنه كان آهلاً بالسكان من قديم الزمان، ففضلاً عن بعض الاكتشافات التي حصلت صدفة في بعض أماكن هذا الموضع، فإنّ موضعاً استراتيجياً بهذا الجمال والخصب، ومرتفعاً عما حوله، وتحيط به هذه الواحات الغنّاء من بساتين النخيل التي تتخللها عيون ماء هدارة خرارة عظيمة كعيون الخدود والحقل من الشرق، وعين أم خريسان من الشمال، وعين البحيرية من الغرب مع بضع عيون أخرى تحيط به أو هي تقع ضمن حدوده؛ لا يمكن أن نقول عنه إنه كان خالياً من السَّكن في الزمن القديم، فهو كان مسكوناً بلا شك، ولكن هل كان له ذات الاسم أي الهفوف أم كان له اسمٌ أو أسماء أخرى كان يُعرف بها ؟ هذا ما لا نعرفه على وجه اليقين.

لا شك أنّ ندرة المصادر التاريخية عن أي مدينة هو مما يعيق الباحث عن تقديم معلومات دقيقة عن تاريخ نشوئها وبنيانها، وهو ما ينطبق عليه الحال بخصوص مدينة الهفوف التي لا نجد لها ذكراً في مؤلفات القرن العاشر وما قبله، وأما مؤلفات القرنين الحادي عشر والثاني عشر، فالذي يوجد فيها عن هذه المدينة من معلومات هو نزرٌ يسير لا يبلُّ صدى ولا يروي ظمأ، وإزاء ذلك فإنه لا يمكننا أن نجزم بوقت إطلاق مسمى الهفوف على المدينة التي تحمله الآن إلا أنه يمكننا أن نستنطق بعض الشواهد التاريخية والشعرية المتفرقة في بطون الكتب للإجابة على سؤال ملح، وهو هل كان يوجد سكانٌ في هذا الموضع المعروف الآن بالهفوف بغض النظر عن كونه كان يُسمى الهفوف أم غير ذلك من الأسماء.

ولكن قبل ذلك أود مناقشة رأي أستاذنا الشيخ حمد الجاسر– رحمه الله –في أنّ مدينة الهُفوف أنشئت في القرن العاشر اعتماداً منه على نقش المسجد المعروف بمسجد الدِّبْس الواقع حالياً جنوب غرب القصر الشهير المعروف بـ(قصر إبراهيم باشا)، فقد كتب في هذا النقش أنه شُيّد من قبل أحد ولاة الأحساء العثمانيين سنة تسع مئة وثلاث وستين للهجرة، وفي رأيي إنّ ذلك غير كافٍ في التدليل على أنّ المدينة أسست في ذات العام؛ فضلاً عن أنه غير كافٍ للتدليل على إطلاق مسمى الهفوف عليها في العام ذاته، فقد يكون بناء المساجد قد تم بعد تأسيس المدينة التي بُني فيها بمدة طويلة، ويجوز أيضاً أن يكون اسم الموضع الذي أسس فيه هذا المسجد لم يكن يسمى الهفوف حينها، أو كان كذلك.

وقد ورد في شعر ابن المقرب الأحسائي ما يفيد بوجود استيطان من قبل قومه العيونيين لموضع الهفوف في القرن السابع الهجري، وإن كان ذلك قد يعني أيضاً المبرز أو كلي المدينتين، فقد ذكرت مخطوطة المكتبة الرضوية بطهران قراءةً لأحد أبيات قصيدة ابن المقرب التي أولها:[7]

أبى الدهر أن يلقاك إلا محاربا



فجرد له سيفاً من العزم قاصبا

وهي التي يقول فيها:[8]

إذا أنت ألقيت العصي مخيماً



بالاحسا وجاورت الملوك الأطايبا

فيمم لجرعاء الشمال فإن لي



بها حلةٌ أشتاقها وملاعبا

وقف وقفةً بالدرب غربي (باهِلٍ)



فثم تلاقي أسرتي والأقاربا

فتلقى ملوكاً كالأهلة لم تزل



تهش إلى الجُلى، وتأبى المعائبا

فـ(باهل) في البيت الثالث هي ما يعرف الآن بـ(باهلة)، وهي عين كانت تقع إلى الشرق من الركن الشمالي الشرقي لسور مدينة الهفوف بمسافة كيلو مترين ونصف تقريباً، فقوله غربي باهل قد يقصد به موضع الهفوف سواءً أكان اسمها الهفوف حينئذٍ أم غير ذلك، فيبدو أن بقايا العيونيين في آخر حكمهم للبلاد قد تركوا عاصمتهم القديمة مدينة الأحساء التي تقوم اليوم قرية البطالية على آثارها وسكنوا الموضع الذي تقوم عليه الآن مدينة الهفوف بدليل قول ابن المقرب: "فثم تلاقي أسرتي والأقاربا"، وقوله: "فتلقى ملوكاً كالأهلة"، والجدير بالذكر أنه لا زال يوجد حتى اليوم دربٌ قديم كان يمرُّ بقرب عين باهلة، ويؤدي إلى مسورة الهفوف غرباً وهو الطريق الرئيسي القديم الذي يوصل بين الهُفُّوف وقرى الجبيل والحليلة والعُمران،والقرى المحيطة بجبل القارة (الشبعان) وما حولها شرقاً، وقد قُيِّر هذا الدرب الآن.

والرواية المحلية التي نقلها فيدال عن أهالي الهفوف وقت زيارته للأحساء عام 1953م عن أصل تكون مدينة الهفُوف تكاد تتفق مع هذا الذي يُفهم من شعر ابن المقرَّب، فملخص هذه الرواية التي ذكرها عنهم حول نشأة مدينة الهُفوف هو أنّ بعض الناس الأغنياء من داخل الواحة كان لديهم بضع حدائق نخيل وبيوت ريفية في موضع الهفُوف الآن قبل أن يصبح مدينة، وكانوا يستعملونها في الصيف أو للتسلية مع الأصدقاء أثناء أمسيات الدورة السنوية في هذا المكان البارد والمنعش، والذي أعطي اسم الهفوف لذلك، ثم أصبح لاحقا مستوطنة دائمة أصبحت على حجمها الحالي بمرور الوقت.[9]

الهفوف في الوثائق الأحسائية
وأما عن ورود اسم الهفوف في الوثائق الأحسائية القديمة، فقد نشرت إحدى الصحف المحلية قبل بضع سنوات وثيقة وصفتها بأنها أقدم وثيقة أحسائية ورد فيها اسم الهفوف، وزعم إنها مكتوبة عام 885 للهجرة،[10] وهو كلامٌ عارٍ من الصحة، فهذه الوثيقة ليست النسخة الأصلية التي كتبت عام 885هـ، وإنما هي – وفق ما كتب ناشر الخبر – منسوخة عن منسوخة النسخة الأصلية.

ومنسوخة منسوخة النسخة الأصلية هذه كتبت وقت تولي الشيخ عبد الله بن أبي بكر الملا لقضاء الأحساء، والشيخ الملا هذا توفي سنة 1309 هجرية، فيكون تاريخ هذه المنسوخة المعروضة في الجريدة قريباً من هذا التاريخ، وكذلك النسخة التي استُنسخت نسخة القاضي الملا عنها هي الأخرى ليست الأصلية، وإنما تم نسخها عن النسخة الأصلية، وذلك في أيام تولي الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن حسين العدساني لقضاء الأحساء الذي تدل الوثائق على أنه تولى ذلك بين العامين 1166 – 1183 للهجرة، وعليه يكون تاريخها في هذه الفترة، وأما النسخة الأصلية المزعوم أنها كتبت عام 885 للهجرة، فهي غير موجودة ولا يُعرف عنها شيء، وبالتالي فإن منسوخة منسوختها التي كتبت في إبان فترة تولي الشيخ الملا لقضاء الأحساء ينبغي أن تخضع لعدة معايير علمية كصحة النقل عن منسوخة الوثيقة الأصل، ومطابقتها لها تماماً حرفاً بحرف فضلاً عن مطابقة هذه الأخيرة لنسخة الأصل، وهو ما لن نستطيع التأكد منه لفقدان النسخة الأصل، وكذا النسخة المنسوخة عنها أيام القاضي العدساني.

غير أننا – وبعيداً عن كل هذا – وبمراجعة محتوى الوثيقة المنسوخة نجد أنّ الوثيقة الأصلية التي زعم أنها كتبت عام 885 للهجرة ورد فيها أنها كتبت في زمن القاضي إبراهيم بن شجاع، ونصّ ما كتب فيها بهذا الخصوص هو كما يلي:
"هذا صورة توقيع قاضي زمن الوقفية: جرى وثبت ما فيه عندي، فأثبته وحكمت بصحته؛ حرره الفقير إبراهيم بن شجاع المولّى بقضاء الحسا عفى الله عنهما".

فإذا كانت هذه الوقفية قد حُرر أصلها في زمن القاضي إبراهيم بن شجاع، فهي بالتأكيد لا ترتقي إلى القرن التاسع الهجري لأنّ هذا القاضي ليس من رجالات ذلك القرن، وإنما هو من رجالات النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري، فقد ورد اسمه كشاهد في وثيقة كتبت عام 1063 للهجرة، وهذه الوثيقة هي عبارة عن وقف ذرية أوقفه الشيخ محمد بن خلف بن هلال الشافعي لعقارات وبساتين في طرفي البحيرية وأم خريسان على ولديه عبد الله وناصر، وشهد عليه عدة مشايخ تولوا القضاء في الأحساء ونواحيها، ومنهم القاضي إبراهيم بن شجاع الذي كان نصُّ توقيعه كما يلي:

"لما عُرض علي هذه الوثيقة الشرعية وتأملت من أوله! إلى تاليه! وجدته موافقاً للشرع القويم؛ قَبَلْتُه وَأمضَيْتُه؛ حَرَّرَهُ الفقير إبراهيم بن قاضي شجاع المولَّى بقضاء الأحساء المحمية".[11]

وقوله: "قَبَلْتُهُ وَأمْضَيْتُه" يدل على أنه كان لا زال قاضياً في الأحساء حينها، وهذا الأمر في حد ذاته يلغي مصداقية تاريخ هذه الوثيقة المزعومة أعني وثيقة العام 885 للهجرة.

وللأسف الشديد، فإنّ الوثائق الأحسائية المتوفرة لدينا لا تُسعفنا بتاريخ نشوء مدينة الهفوف على وجه التحديد؛ علماً أنّ ما اطلعت عليه منها مما ذكر فيها اسم الهفوف، وذكر أنها تعود للقرن العاشر هي قليلة جداً تعد على أصابع اليدين، وإضافة إلى ذلك هي كلها وثائق غير أصلية، فهي إما أن تكون منسوخة عن الوثائق الأصلية، أو إنّها منسوخة عن منسوخة الوثائق الأصلية، وعليه فإنه لا يمكننا الجزم بورود اسم الهفوف في الوثيقة الأصلية القديمة لأنّ تغير اسم الموضع قد يستدعي من ناسخ وثيقة ورد فيها اسم هذا الموضع استبدال الاسم الحديث له باسمه القديم المدوّن في وثيقة الأصل لأنّ القصد من تجديدها هو حفظ حدود العقار المحدد فيها، والذي عادة ما يكون وقفاً أو إرثاً وذكر الاسم القديم لن ينفع في حفظ هذه الحدود، وعلى أي حال، فإن البحث العلمي يفرض علينا عدم الجزم بوجود مسمى جغرافي في وقتٍ معين ما لم يوجد دليل ملموس على وجوده في ذلك الوقت، وفي مثل هذه الحالة الخاصة بالوثائق الورقية، فإنّ الوثيقة الأصلية التي كتبت في القرن العاشر الهجري، والتي يرد فيها اسم الهفوف هي الدليل المقبول لإثبات وجود مسمى الهفوف كمدينة في ذات القرن، وأما ما نُسخ عنها في القرون اللاحقة، فلا تقوم مقامها إلا من حيث الاستئناس بها والترجيح، وليس الجزم.

وكذلك الحال بخصوص الوثائق العثمانية الخاصة بالأحساء، والعائدة للقرن العاشر، فلا نكاد نجد فيها مسمى الهفوف؛ في حين إننا نرى اسم مدينة المبرّز، وهي المدينة الثانية في الأحساء يرد في إحدى وثائق هذا القرن العائدة للدولة العثمانية، وكذلك بعض القرى الأحسائية كقرية واسط الواقعة شمال العمران الشمالية.[12]

وأيضاً، فإنه يمكننا أن نلاحظ أنّ الوثائق الأحسائية المحلية العائدة للقرن الحادي عشر وما بعده مليئة بأسماء أحياء تقع داخل مدينة الهفوف حالياً كحي الرفعة وحي الكوت؛ بل إنّه حتى حي الرفعة الذي توسع إلى عدة أحياء لاحقاً، فقد ذكرت أحياؤه الجديدة في هذه الوثائق؛ مثل حي الرُّقيّات، وحي الفوارس، وحي الصاغة، وحي الجحاحفة، فكانت هذه الأحياء تذكر كطرف من أطراف الحي المتفرعة منه، وهو حي الرفعة، فيقال "طرف الرقيات التابع لحي الرفعة"، أو "طرف الصاغة التابع لحي الرفعة" .. الخ، ولكنه يندر أن نجد في هذه الوثائق نسبة حي الرفعة مثلاً إلى الهفوف بل يُكتفى دائماً بذكر حي الرفعة كنهاية للتحديد، ولا تذكر الهفوف مع علمنا بوجودها كمدينة معروفة حينها كما سنرى عند استعراضنا لشعر القرن الحادي عشر الذي ذكرت الهفوف فيه.

نعم ظهر اسم الهفوف كمسمى لمدينة في الأحساء في وثائق أحسائية تعود للقرن الحادي عشر وما بعده بوضوح، ومن هذه الوثائق وثائق لأوقاف مساجد بنيت في الهفوف بنى أقدمها علي باشا أمير إيالة الأحساء في القرن الحادي عشر الهجري،[13] وإن كان معظم هذه الوثائق أيضاً هي وثائق منسوخة عن الوثائق الأصلية في أزمان لاحقة، وليست الأصلية؛ كما ينبغي الالتفات إلى أنّ بعض هذه الوثائق العائدة للقرن الحادي عشر الهجري ورد فيها اسم (هفوف)، ولكن لم يكن يراد به البلدة المعروفة، وإنما أطلق على قطعة زراعية تدعى في العرف المحلي باسم (شرب)، فوردت هذه اللفظة في هذه الوثيقة مضافة إلى (هفوف)، ونصُّه فيها كما يلي:

"وحدُّ شُرْبِ هفوف قِبْلَةً الجرْعَة، وشمالاً الطريق ومشْرُوبُ المزرَع، وشرقاً المزْرَع، وجنوباً مُلْك يوسف الخنجرلي".[14]

الهفوف في الشعر العربي القديم
لقد مرّ بنا في أول البحث بيت ابن حبيب التاروتي الخطي من رجالات القرن الثاني عشر الهجري، والذي يذكر فيه الهفوف بتشديد الفاء، وذلك في قوله:

مَهْلاً مُهَفْهِفَةَ الهُفُّوْفِ مِنْ هَجَرِ



أرَنَّةُ الصَّوْتِ ذِيْ أمْ رَنَّةُ الوَتَرِ

إلا أنه يوجد شاعرٌ أقدم من ابن حبيب ذكرها في شعره ولكنه نطقها مخففة الفاء الأولى، وليس كما ذكرها ونطقها ابن حبيب الخطي مشدداً لها، وهذا الشاعر هو شهاب الدين بن معتوق الموسوي (1025 – 1087هـ)، وذلك في قصيدة قالها عندما جرّد ممدوحه حسين باشا بن علي أفراسياب والي البصرة حينها حملةً تأديبية لقبيلة بني خالد ومن معها من قبائل البدو الذين كان قد طلب من زعيمهم براك الخالدي الهجوم على الأحساء والقطيف واستخلاصهما له من الوالي العثماني، وقد فعل برّاك ذلك إلا أنه استخلصهما لنفسه بدلاً من حسين باشا،[15] فما كان من حسين باشا إلا أنْ جرَّد حملةً كبيرة من البصرة، وطرد برّاكاً وقبيلته من حصن الهفوف، فأنشأ ابن معتوق قصيدة بهذه المناسبة يهنئ حسين باشا بهذا الفتح، وقد جاء في مقدمتها ما نصه:

"وقال يمدحُه ويهنئُهُ بفَتْحِ حِصْنِ الهفُوْفْ".[16]

ومن ضمن ما ورد في هذه القصيدة قوله فيها: [17]

سلِ الهُفوفَ عن الأعرابِ كم ترَكوا



منَ الكُنوزِ وجنّاتٍ ببقعَتِهِ

ثم يقول موجهاً الخطاب لبني خالد: [18]

يا خالديّونَ خُنتُم عهدَ سيّدِكم



هلا وفَيتُم وخِفتُم بأسَ صَولَتِهِ

ثم يذكر زعيم بني خالد براك: [19]

بَرّاكُ ربُّك ما برّاكَ منهُ ولا



خُصِصْتَ في برَكاتٍ من عطيّتِهِ

كفرْتَ في ربِّكَ الثاني وخُنتَ به



يَكفيكَ ما فيكَ من حِرمانِ نِعمتِهِ

وكان تاريخ هذه الوقعة عام (1074هـ / 1663 - 1664م)[20] مما يعني أنّ الهفوف كانت قائمة كمدينة قبل هذا التاريخ، وهو ما يتفق حتى الآن مع الوثائق الأحسائية للقرن الحادي عشر.
للبحث صلة ..


الصور والوثائق التوضيحية:


 صورة جوية لمدينة الهفوف (لليسار)، وقد بدا فيها أحياؤها الثلاثة: الكوت والرفعة 
والنعاثل، وإلى (اليسار) رسم كروكي للصورة ذاتها موضح عليها أهم الأماكن فيها


 صورة أخرى ملتقطة جواً للهفوف من الجنوب الغربي للشمال الشرقي، وقد وضح فيها 
قلعة الكوت داخل المدينة، وحي الرفعة على يمينها، وحي النعاثل أسفل منها، وإلى شمال
القلعة بدت واحة عين أم خريسان، وإلى الغرب منها واحة السيفة؛ كما بدى إلى الشرق
من المدينة بداية غابات النخيل الكثيفة الممتدة من عيني الخدود والحقل إلى العمران.


عين أم خريسان الواقعة شمال مدينة الهفوف


عين الحقل أقوى عيون الأحساء تدفقاً بالمياه؛ تقع هذه العين للشرق من حي الرفعة
أحد أحياء مدينة الهفوف.


عين الخدود إحدى شهريات عيون الأحساء وأقواها؛ تقع شرق حي الرفعة من أحياء 
مدينة الهفوف جنوب عين الحقل السابقة بثلاثمائة متر فقط.


إحدى الوثائق الأحسائية المحلية العائدة للعام 1058هـ، وقد ورد فيها موضع نخل
يدعى (شرب هفوف)؛ كما في السطر رقم 24.



[1]الشيخ علي بن حسن البلادي: أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين؛ تحقيق عبد الكريم البلادي (بيروت: مؤسسة الهداية 1424هـ - 2003م) ج2: 185.
[2]سليمان بن صالح الدخيل: تحفة الألباء في تاريخ الأحساء (بيروت: الدار العربية للموسوعات 1422هـ 2002م) الصفحات 61، 69.
[3]F. S. Vidal, The Oasis of Al-Hasa 1955 P 77.
[4]محمد بن عبد القادر: تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد (الرياض: طبعة مكتبة المعارف 1982م) الصفحة 31.
[5]F. S. Vidal, The Oasis of Al-Hasa 1955 P 77.
[6] جمال الدين محمد بن منظور: لسان العرب؛ لجنة تحقيق (قم: مركز نشر أدب الحوزة 1405هـ) ج9: 348 مادة [ هفف ].
[7] شارح مجهول: شرح ديوان ابن المقرَّب؛ تحقيق عبد الخالق الجنبي (بيروت: دار المحجة البيضاء 1433هـ) ج1: 66.
[8] شارح مجهول: شرح ديوان ابن المقرَّب؛ ج1: 69 – 70.
[9] F. S. Vidal, The Oasis of Al-Hasa 1955 P 77.
[10] نُشرت في جريدة الرياض السعودية بتاريخ 10 ذي القعدة 1427هـ - 1 ديسمبر 2006م؛ العدد 14039؛ مذيلة بصورة لها، ونص ما ورد في هذه الوثيقة المشار إليها مما يختص ببحثنا هو قوله فيها: "بطرف البحيرية تابع هفوف".
[11] الوثيقة رقم ( 8 ) من وثائق متسلسلة تاريخياً أهدبت لي من قبل آل النمر الأحسائيين.
[12] مهمة دفتري؛ الجزء الثالث الصفحة 386 رقم 2، وتتحدث هذه الوثيقة عن قيام سعدون بن حميد الخالدي بهجوم على الأتراك العثمانيين في الأحساء عام 967 للهجرة، وقد ذكرت الوثيقة أنّ سعدوناً أخذ يوزع على أتباعه مزارع ونخيل الأحساء، وأنه وزع عليهم دخل قرية واسط التابعة للأراضي السلطانية، وجمع مبلغاً كبيراً من قرية المبرّز.
[13] عبد الكريم بن عبد الله المنيف الوهيبي: العثمانيون وشرق شبه الجزيرة العربية (إيالة الحسا)؛ (الرياض: مطابع الحميضي 2004)؛ انظر الملحق رقم (1)، و(2)، و(3)، ولا عبرة بقوله عن الوثيقة الأولى إنها من وثائق القرن العاشر، فهي غير مؤرخة، والأستاذ إنما أرخها اعتماداً على خصائص فيها رأى بموجبها أنها من وثائق القرن العاشر، ولكنني لا أرى ذلك.
[14] عبد الكريم بن عبد الله المنيف الوهيبي: العثمانيون وشرق شبه الجزيرة العربية (إيالة الحسا)؛ (الرياض: مطابع الحميضي 2004)؛ انظر الملحق رقم (4)، وتاريخ هذه الوثيقة 1058هـ
[15] ستيفن همسلي لونجريك: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث؛ ترجمة جعفر الخياط (بغداد 1985م)؛ الصفحة 142.
[16] معتوق بن شهاب الموسوي = ابن معتوق: ديوان ابن معتوق؛ تحقيق سعيد الشرتوني اللبناني (بيروت: المطبعة الأدبية 1885م)؛ الصفحة 200.
[17] معتوق بن شهاب الموسوي = ابن معتوق: ديوان ابن معتوق؛ تحقيق سعيد الشرتوني اللبناني (بيروت: المطبعة الأدبية 1885م)؛ الصفحة 203.
[18] معتوق بن شهاب الموسوي = ابن معتوق: ديوان ابن معتوق؛ تحقيق سعيد الشرتوني اللبناني (بيروت: المطبعة الأدبية 1885م)؛ الصفحة 204.
[19] معتوق بن شهاب الموسوي = ابن معتوق: ديوان ابن معتوق؛ تحقيق سعيد الشرتوني اللبناني (بيروت: المطبعة الأدبية 1885م)؛ الصفحة 204.
[20] ستيفن همسلي لونجريك: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث؛ ترجمة جعفر الخياط (بغداد 1985م)؛ الصفحة 142.